«مذكرات لينا موخينا: حياتي في مدينة لينينغراد المحاصرة» مؤلف آخر أردنا عرضه هنا لأن كاتبته، وهي مواطنة سوفييتية من مدينة لينينغراد، سجلت فيه يومياتها بين أيار (مايو) 1941 وأيار 1942 عن حياتها في المدينة قبل الغزو النازي وحصار المدينة وخلاله. لينا موخينا صاحبة هذه اليوميات لم تكن كاتبة ولا صحافية، وإنما فتاة في الخامسة عشر من العمر، ما يمنح النصوص براءة إضافية. البراءة الأصلية تنبع من أن كاتبة السطور لم تكن تعرف إن كانت ستعيش في هذا الحصار المدمر الذي بدأ أسابيع قليلة بعد عدوان ألمانية النازية على الاتحاد السوفييتي واستمر نحو تسعمئة يوم، لذا من البديهي أنها كانت تسجل وقائع حقيقية. لقد قامت قوات ألمانية النازية بحصار مدينة لينينغراد وكانت الأوامر بتسويتها بالأرض وعدم قبول أي استسلام.
لكن ذلك لم يكن معلوماً لدى السكان. كان عليهم، هم الذين ينتمون إلى عرق أدنى بحسب الجنون العنصري النازي، الموت أو الرحيل، ليفسحوا في المجال لتنفيذ خطط النازية بإسكان العرق الآري «الأرقى» ضمن خطة «المجال الحيوي» بدلاً من سكان شمال غربي روسيا الذين سيرحلون إلى سيبيريا. من الجانب السوفييتي، كان الأمر بالدفاع عن المدينة التي انطلقت منها الثورة البلشفية وتحمل اسم قائدها وملهمها لينين. فسقوط المدينة للنازيين كان سيشكل ضربة معنوية هائلة للجيش الأحمر؛ (لا أدري كيف قبِل سكان المدينة تغير اسمها والعودة إلى اسمها القيصري الألماني، وليس الروسي، بعدما دفع ملايين الأفراد حيواتهم دفاعاً عنها كونها رمز البلاد – ز م).


لينا موخينا تبدأ يومياتها بالحديث عن حياتها في المدينة قبل الغزو النازي، وعن الدراسة والمدرسة وصديقاتها وعن حياتها في أجواء الدعاية السوفييتية، وعن حبها الخفي لطالب معها اسمه فوفا، لتنتقل بعدها إلى الحديث عن الحرب، التي كانت تتوقعها، لكن القيادة في موسكو كانت تتوقع عكس ذلك. تصف الحياة اليومية والعذابات المرافقة، خصوصاً أن عدم توقع القيادة السوفييتية عدواناً ألمانياً نازياً عنى أن المدينة لم تقم بتخزين الأغذية وغيرها من مواد المعيشة.
ثمن ذلك التقصير كان باهظاً حيث قضى أكثر من مليون من جنود الجيش الأحمر دفاعاً عنها وأكثر من مليوني مصاب، إضافة إلى موت مئات الآلاف من المدنيين جوعاً. كل ذلك تذكره كاتبة اليوميات، مثل قولها إن جدتها مرضت وكانت على وشك الموت، لكنها تمنّت ألا ترحل إلا بعد مطلع الشهر كي تستفيد هي من بطاقة التموين خاصتها (تمنحها 125 غراماً من الخبز يومياً). تعليقات مماثلة كانت نادرة في اليوميات، لكن بؤس حالة الأحياء مميت حقاً. في أحد الأيام، كتبت أن السكان سيصابون بالجنون جراء قصف قوات الحصار النازية المكثف الذي طال حتى مخازن الحبوب والطعام والمطابخ الجماعية ومراكز توليد الطاقة الكهربائية.
الناس لم يعودوا يكترثون للنزول إلى الملاجئ لأنهم ما عادوا يملكون الطاقة لذلك


لينا كتبت أن السكان اضطروا لأكل الورق المقوى مع الغراء الذي يستعمله النجارون، ثم اضطرت لأكل قطتها لتفادي التضور. وتلاحظ أن القطط والكلاب اختفت من المدينة، بينما حُكِيَ أيضاً عن حالات أكل لحم الأموات من البشر. عاشت لينا لتشهد وفاة والدتها وخالتها وصديقة لها كانت تعيش معهم في المنزل وانتهى الأمر بها إلى اضطرارها لتدبير أمورها وحدها في المدينة المحاصرة. نصف يوميات لينا مخصصة للحديث عن الطعام، أو فقدانه، وعن الموت في المدينة الصامدة والغارات الجوية النازية.
كما كتبت عن مشاركتها في حفر الخنادق ضمن حدود المدينة الجنوبية حيث كان على الجميع العمل 12 ساعة، تتخللها عشر دقائق استراحة كل ساعة. قرب نهاية اليوميات كتبت لينا إن الناس لم يعودوا يكترثون للنزول إلى الملاجئ لأنهم لم يعودوا يملكون الطاقة اللازمة وغير قادرين على بذل الجهد الجسدي المطلوب لنزول الدرج وصعوده.
يوميات لينا، هذا الكنز الثمين والشاهد التاريخي المهم عثر عليه بطريق المصادفة في ستينيات القرن الماضي ولم تنشر باللغة الروسية إلا في عام 2011. فصاحبتُها دعت في اليوميات أي شخص يعثر عليها لإيصالها إلى أقاربها كي يعرفوا العذابات التي تعرضت لها في لينينغراد المحاصرة.

* The Diary of Lena Mukhina: A Girl›s Life in the Siege of Leningrad Hardcover
by Lena Mukhina (Author), Amanda Love Darragh (Translator)
Pan Macmillanـ 2016