لم يكن هوس أبي خليل القباني (1833- 1903) بتأصيل مسرح عربي نزوة عابرة، بقدر ما كان فعلاً تنويرياً في مواجهة حقبة مظلمة أرخت بثقلها على المشرق العربي طوال فترة الاحتلال العثماني، ما جعله يدفع فاتورة باهظة جرّاء مواقفه المتمرّدة، إذ طارده الظلاميون طويلاً، بإحراق مسرحه في دمشق، ما اضطره إلى اللجوء إلى القاهرة وبيروت لاستكمال حلمه المسرحي، قبل أن يعود إلى دمشق محطّماً، ويدفن فيها، بعد سنة واحدة من موت تنويري آخر هو عبد الرحمن الكواكبي مسموماً في القاهرة. ربما كان القباني محظوظاً بدعم وتشجيع الوالي العثماني مدحت باشا حينذاك. إلا أن هذه الفترة كانت خاطفة مقارنة بالمصائب اللاحقة التي واجهته مع ولاة آخرين تعاضدوا مع شكاوى شيوخ دين جَهَلة اتهموا صاحب «يا مال الشام» بتصدير البدع واقتحام المحرّم.
(غلاف الكتاب)

في كتابه «وقائع مسرح أبي خليل القباني في دمشق» (دار المتوسط)، يزيح تيسير خلف الستارة عن صفحات مطوية ومجهولة من حياة هذا المسرحي الرائد خلال الفترة ما بين 1873 - 1883، التي مثّلت مخاضاً للنهضة الثقافية والفنية والفكرية في بلاد الشام. وهذه السنوات العشر تمثل أيضاً الجانب المجهول تماماً من سيرة هذا المبدع الاستثنائي، بالاعتماد على الوثائق العثمانية والبريطانية والفرنسية والأميركية والأرشيف الصحافي للقرن التاسع عشر. بدأت علاقة الباحث السوري بتراث أبي خليل القباني حين اكتشف وثائق نادرة عن رحلة مجهولة قام بها القباني إلى شيكاغو (1893)، والملابسات والمصاعب التي صادفته أثناء وبعد العروض التي قدّمها هناك. وها هو ينبش في أوراق أخرى تنطوي على أهمية فائقة في إضاءة المرحلة الدمشقية من نشاط القباني المسرحي ومساهمته في إطلاق «دار المسرح العربي» في مطلع سبعينيات القرن التاسع عشر، مدعّمة بالوثائق والصور والرسائل والبرقيات والصحف والدوريات، بالإضافة إلى جدول بأسماء مسرحيات أبي خليل القباني وفقاً لتسلسل سنوات عرضها، كما وردت في الكتاب السنوي لولاية سوريا (سالنامة). يرصد الكتاب نشأة القباني وخصائص مسرحه وتأثيره في ترسيخ هوية عربية، جنباً إلى جنب مع التحوّلات التاريخية التي شهدتها المنطقة في الفترة ذاتها، بالاتكاء على مذكرات رحّالة ومستشرقين تكشف عن حركات تمرّد ضد الإمبراطورية العثمانية، «فاللغة العربية الفصحى، والمواضيع المقتبسة من التراث العربي، في مسرح القبّاني، هما اللذان خلقا الإحساس العميق بالهوية العربية لدى الجمهور الدمشقي، حتّى وإن كانت مضامين بعض المسرحيات تتحدّث عن أمير فارسي، وملك هندي ومعشوقة صينية. وربّما يُفسّر ذلك تجذُّر الأفكار القومية العربية في دمشق، منذ مطلع القرن العشرين» يقول. مرّة أخرى سنكرّر النداء بأن بيت أبي خليل القباني في دمشق، قد تحوّل إلى مكب للنفايات بقصد استثماره لاحقاً كمطعم، بدلاً من ترميمه وتحويله إلى متحف!