متوالياتيعيش في فيلا تُشبه تماماً فيلا جاره، وفيلا جاره تُشبه تماماً الفيلا المجاورة لها، والفلل الثلاث تشبه تماماً فيلا الجار الرابع والخامس والسادس، وحتى نهاية الشارع، والشارع الذي يقابله، والشارع الذي يليه، والشارع الذي يقابل الشارع الذي يليه و...
الأبواب نفسها، والأسوار نفسها، والنوافذ نفسها، والألوان نفسها، والباركيه نفسه و...
ولو عاد في ساعةٍ متأخرة من الليل، مرهَقاً أو ثملاً، ولم ينتبه إلى أرقام الفلل، لربما خلط بين بيته وبيت جاره أو أيّ جارٍ آخر. تخيلوا معي لو كانت المفاتيح أيضاً متطابقة، كان سيدخل بيت ذلك الجار، ولن يلحظ الفرق إن وُجِد، فالأثاث نفسه تقريباً، الطاولات، والكراسي، والنباتات الصناعية، والشاشات، والسجاد. ولو شعر بالجوع، سيجد في الثلاجة الأجبان نفسها، والألبان نفسها، والزيتون نفسه، كان قد تبضَّع مثل هذه الأطعمة بالضبط قبل يومين.
حتى الصور الشخصية المعلقة على الحائط تكاد تكون متطابقة.
سلفادور دالي ــ «رسوخ الذاكرة» (زيت على قماش، 1931 ـ تفصيل)

ربما يعود ذلك الجار بعده بدقائق، ويخلط هو الآخر بين بيته وبيت جاره. سينام كلٌ منهما في بيت الآخر، بجوار زوجة جاره، وعندما يستيقظان لن تقع كارثة ولا فضيحة، لا، فلن ينتبه أحد على الأرجح، لا الزوج ولا الزوجة ولا حتى الأطفال. سيتناولون بسعادةٍ وجبة الإفطار، ثم ستوصيه الزوجة بينما تناديه يا حبيبي بأن يتعجَّل؛ ليُقِلَّ الصغار إلى مدارسهم.

حتى ساعات دالي
تراقبك الساعة، تراقبك طوال الساعة بينما تحسب في الوقت نفسه مرور الوقت. ربما تكون ساعة حائطٍ في محطة أنفاق برلين أو ساعة يد معروضة للبيع في واجهة متجرٍ بطوكيو.
تراقبك تلك الساعة عن بعد، عبر سلسلةٍ لا نهائية من الساعات، وتتناقل أخبارك بصوتٍ عالٍ مثل ساعة بيغ بن، أو بصوتٍ أشبه بهسيس الساعات الصغيرة.
لا يمكنك تضليل الساعة، حتى عندما تسافر إلى الشرق أو الغرب، فيتقدم التوقيت أو يتأخر. في المطارات مكاتب صرافة للعملات وللوقت أيضاً، التوقيت المحلي يختلف عن الآسيوي عن الأوروبي عن الأميركي الشمالي والجنوبي. يوجد أيضاً مكتب جمارك للوقت، لا يمكنك تهريب ساعةٍ من دبي أو تسع ساعات من نيويورك.
اثنتا عشرة ساعة في النهار ومثلها في الليل. تسهو ساعتك أحياناً أو تركن إلى الراحة، فتغط الثانية ظهراً في قيلولة، لتجد الساعة تشير إلى الثالثة عصراً. هذا ما يجعل بعض الساعات تبدو أقصر أو أطول من ساعاتٍ أخرى.
لعلك لاحظت أن بعض الساعات لا تتجاوز مدتها خمس دقائق، بينما هناك ساعات تمتد إلى أكثر من خمس ساعات. لا يطول الوقت لمجرد أنك تشعر بالحزن، ما هذا الغرور؟ لا شأن لكوارثك بثقل الوقت، ولا علاقة بالطبع لأفراحك بجريانه. لستَ الساعاتي هنا، أنت البطارية، وأسلافك الرمل.
يمكنك الآن أن تخمن لماذا تتعطل فجأةً بعض الساعات. تتوقف أخيراً عن الحركة والمراقبة.

تكامُل
كان حباً لا يمكن أن نقرأ مثلهُ في الروايات، أو نسمعُ ما يشبههُ في الأغاني. يكفي أن يغيب أحدهما لسويعاتٍ، حتى يشعر الآخر بأنه عجوزٌ أو أرمل.
كانا لا يفترقانِ أبداً حتى أثناء النوم، يمشيانِ معاً يداً بيدٍ في الحلم نفسه، أو يهربانِ معاً من الكابوس نفسه. وعندما يستيقظ أحدهما فزِعاً، يمد يدهُ إلى الآخر، فينتشلهُ من الكابوس.
أما في الصباحات التي تعقب الأحلام، فتنهمك المرأةُ بحماسة في سرد حلم الليلة الفائت، كما لو أنه لم يكن معها. يترك الرجل الجريدة، وينصتُ إليها باهتمامٍ لا يفتعله، ولكنها تتوقف بغتةً في منتصف الحديث، وتمضي إلى المطبخ.
يصرخ معترضاً: «ولكن ما الذي حدث بعد ذلك؟»، فتجيبه: «تعرف كل شيء». يُنكِر وينتظرها لتسرد ما تبقى من الحلم الذي يتذكرهُ جيداً.

شارب فريدا كالو
لم تنجب حتى الآن، ولا يظنها ستنجبُ أبداً.
كانت السنوات الأولى سنوات ترقُّبٍ عظيم. يفرحانِ كلما تأخرت الدورة الشهرية يوماً أو يومين، ويغضبانِ كلما بكَّرت وإن تظاهرا بغير ذلك. في السنة الرابعة، تقبّلا الأمر على مضض. لم يذهبا إلى عيادات الإنجاب. كان هذا رأيه، قال بوضوح إن هذه الفحوصات سوف تهدم الذي بينهما إن عاجلاً أو آجلاً. لا، لم يذهب وحده إلى الطبيب، لا تأخذكم الظنون، ولم تذهب هي أيضاً وإن كانت قد حجزت موعداً، وتخلفت عنه في اللحظة الأخيرة.
كان عندهما في الحقيقة بصيصٌ من الأمل حتى السنة السابعة. قال في سريرته وهو يتأملها: «إنه القدر، وعندما تصل الأمور إلى هذا الحد، من الأفضل أن يذعن المرء راضياً». قالت في سريرتها وهي تتأمله: «إنه القدر، ولو سخِط المرء وخبط الأرض بأقدامه كالأطفال، سيذعن أيضاً».
كانا مثل سائر الأزواج يتخاصمانِ على الأمور الصغيرة أكثر من الكبيرة، والخصام أمرٌ صحّي بل ضرورةٌ حياتية. وكانت في البيت غرفةٌ خاصة للخصام، ينعزل فيها أحدهما عندما تتعقد الأمور، فلا يخرج قبل أن يعتذر الآخر.
حمل الزوج وسادته وفراشه دون أن يتخاصما هذه المرة، ومضى إلى تلك الغرفة، ولو تأخر قليلاً لسبقته الزوجة إليها لأنها كانت تنوي فعل الأمر نفسه.
لم يحدث شيء تقريباً لولا أن شعره أخذ يتساقط، شعر الجسد لا الرأس، لأن شعر الرأس كان ينمو بغزارة حتى انحدر على كتفيه في الوقت الذي راح جسده يتحول تدريجياً إلى جسدٍ أمرد. استدار صدره العريض، وصارت أثداؤه تندفع شيئاً فشيئاً إلى الأمام، حتى صار يخفيها تحت قمصانه الواسعة. وصغُر ما بين فخذيه إلى أن استيقظ في أحد الأيام فلم يجده.
كانت أياماً عصيبةً عليهِ وعليها أيضاً. اخشوشن صوتها، وجفت حلماتها، حتى صارت مثل الزبيب. وتسطحت مؤخرتها المستديرة، فصارت كالمقلاة، وظهر عندها ما افتقده زوجها، وبدأ يكبر يوماً تلو الآخر. ما زال في غرفته وما زالت في غرفتها. يخرجانِ فقط ليتناولا الطعام معاً، ولكن بصمت. كلما سقطت شعرةٌ من شاربه نبتت تحت أنفها، حتى صار لها شارب فريدا كالو، وصار الأمر في منتهى الوضوح. ارتدت قميصه الأزرق، فناسب مقاسها الجديد، وعندما وقف أمام المرآة ليجرب بيجامتها الوردية، بدا مثل طائر الفلامينغو حتى إنه وقف لدقائق على ساقٍ واحدة. عادا للنوم معاً، ولترقب الدورة الشهرية مثلما كان الأمر في السنوات الأولى، بل وأكثر.

عبد الله ناصر
أُشبِه كثيراً عبد الله ناصر، وهذا ما يجعل الناس يخلطون بيننا طوال الوقت، حتى الأصدقاء للأسف، أصدقائي وأصدقاؤه، فأضطر عبثاً إلى التأكيد على أنني أطول منه قليلاً وأنه أسمن مني، صحيح أنه أكثر وسامة، لكن في المقابل أنا أذكى منه بكثير، وإذا كنت أكذب، فلِكي أبدو لطيفاً فقط، بينما هو يكذب ليخلص نفسه من ورطةٍ أو مأزق، هناك فرق. حتى لهجاتنا تختلف، وطريقتنا في المشي والضحك، و... ولكنهم يقاطعون حديثي دائماً: «لماذا أقفلت هاتفك؟» أو «لا تتأخر الليلة».
الأسوأ من ذلك عندما ألتقي به في الشارع أو في المطعم. يبدو الشبه صاعقاً، أشك أن تعرف المرآة أو الكاميرا فروقاتنا الصغيرة، أشك أن تعرفها زوجتي أو حتى زوجته. أظنه يخلط أيضاً بيننا، لأنني بصراحة أخلط في بعض الأحيان بيني وبينه.
كنت قد حذرته في لقائنا الأخير: «عليك أن تغادر المدينة في أسرع وقت، أو فلتنتقل على الأقل إلى حيٍّ آخر، أو في أسوأ الأحوال أن تتوقف عن العيش معي في البيت نفسه».

نقش.. كتابة
لم تنجبهُ الأمثال لكنها ربَّتهُ صغيراً فأحسنَتْ تربيته، وحين يدعو لوالديهِ بالرحمة، لا ينسى أن يدعو للأمثال أيضاً لأنها الأم التي لا تغضب، والأب الذي لا يضرِب. أقصى ما يمكنها فعله هو أن تشدَّ أذنه بمثلٍ قديمٍ يلومه ويحذّره من تكرار الخطأ ولا شيء غير ذلك.
كانت الأمثال في سنوات المراهقة تُسيِّر حياته بطريقةٍ جيدة، بل ورائعة، حتى زادت بشكلٍ مهول حصيلته منها وصار لديه المثل ونقيضه، فما عاد يدري أيهما الصواب وأيهما الخطأ. أخذتِ الأمثال تتنازعه مثل الملائكة والشياطين، يشد المثل ذراعه الأيمن، ويجذبه في الوقت نفسه مثلٌ آخر من اليسار، حتى كادت تتمزق ثيابه وعضلاته.
تمنى لو يسكّ كلَّ مثلٍ ونقيضه في قطعةٍ نقدية، وحين تدعوه الحاجة، يقذفها بإبهامه في الهواء ويتلقفها براحة يده، فيظهر النقش أو الكتابة، لكن نقف النقود في النهاية مسألة حظ.
بدت الأمثال مثل الأعشاب، فيها النافع والضار. تساءل، ماذا لو نقعها في الماء، واستخلص منها ما يريد، ثم خلطها بأمثالٍ أخرى ليصنع أمثالاً جديدة؟ لو نجح سيغدو أول من يمتلك «دليل استخدام الحياة».

الآخر
يخاف المرآة، يخاف أن تعكس صورة رجلٍ لم يلتقِ به من قبل، فيحدِّق به طويلاً ذلك الرجل، ولا يتزحزح عن مكانه حتى عندما يغادر الغرفة.
يخاف أيضاً ألا تعكس المرآة صورته، أن يظهر كل مَنْ في المكان إلّا هوَ ينزلق إلى الجانب الآخر من المرآة، الجانب الرصاصي اللصيق بالجدار، حيث يتراكم الغبار فوق صورنا القديمة.
يُنزِل المرآة، ويجعل وجهها إلى الجدار، لم يكن على الإنسان أن يخترع شيئاً مدمّراً كهذا. لو شاء الرب أن نحدّق في وجوهنا طوال الوقت، لجعل أعيننا في باطن أيدينا. يتساءل: أليس الإنسان مرآة الإنسان؟
يخاف المرآة إلى درجةٍ لم يعد يتوقف أمامها حتى عندما يغسل أسنانه، أو يحلق ذقنه، خصوصاً عندما يحلق ذقنه. يخاف، وفي يده موسى الحلاقة، أن يلتقي بالرجل الذي خرَّب حياته.

بطاقة تبرّع
تصلبت أعضاؤها من اليأس، واحداً تلو الآخر، حتى بات من الممكن التبرع بها إلى التماثيل المقطوعة.

منامات الجندي
طاف في المتجر فاستوقفه البائع بلطف، وسأله عن مواصفات الساق التي يرغب في اقتنائها. هل تريد ساقاً للعدوِ أم للرقص؟ للعدو. هل تخطط للهرب أم ثمة من تنوي مطاردته؟ مازحهُ البائع. في الحالتين، هذه الساق المعلَّقة تفي بالغرض. يربّت عليها. العضلة مثالية، والسعر كذلك. يمكنها أن تجري لساعتين بلا توقف. ما رأيك؟ أم تراك تبحث عن ساق عَدّاء؟ الساق الأفريقية هي الأسرع في العالم، والأغلى في السوق بطبيعة الحال. لو شاركت بها في الأولمبياد، لربما ربحت إحدى الميداليات. انظر ما أروعها، هذه الساق لا تتشنج أبداً حتى في الكوابيس. سبق وجرَّبتُها في الحديقة المجاورة. بدتْ سريعةً جداً، بل أسرع مما يجب. كدتُ أن أدهس أحد الأطفال لو لم تتدخل أمه في اللحظة الأخيرة. ظللتُ أعدو فلم تلحقني شتائمها ولم أتوقف حتى اختفت المدينة. يضحك. إذا لم يناسبك لونها الداكن يمكننا طلاؤها. سيكلفك هذا قليلاً من المال. لا بأس بهذا اللون، أكد الرجل. هل تريد قدَماً أيضاً؟ ربما ترغب في إلقاء نظرة على المجموعة الجديدة. لن أخفي عليك، إذا كانت قدمك مسطحة، فلن تجري ساقك الجديدة كما يجب. أرني قدمك، تبدو جيدة. على أي حال، هناك خصومات على بعض الأقدام إن أحببت. غرفة القياس في الخلف، يشير إليها البائع، ويمضي لخدمة جنديٍ آخر يحلم بدخول المتجر نفسه.

(*) مختارات من مجموعة قصصية بالعنوان نفسه صدرت حديثاً عن «دار التنوير» (بيروت/ القاهرة/ تونس ـــ 2019)
** (السعودية)