لدينا خبر غريب عن يوم وصول الرسول مهاجراً إلى يثرب. وهو خبر يكشف فهم يهود يثرب لطبيعة الديانة المحمدية. إنه «خبر بني قيلة» الشهير جداً، الذي أثار اضطراب القدماء، ولم يفهمه المحدثون أيضاً. فإذ كان المسلمون ينتظرون وصول الرسول إلى يثرب، أبصره من بعيد يهودي يثربي: «لما سمعنا بمخرج رسول الله... من مكة، وتوكفنا قدومه، كنا نخرج إذا صلينا الصبح إلى ظاهر حرّتنا ننتظر رسول الله... فوالله ما نبرح حتى تغلبنا الشمس على الظلال. فإذا لم نجد ظلاً، دخلنا وذلك في أيام حارة. حتى إذا كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله... جلسنا كما كنا نجلس، حتى إذا لم يبق ظلّ، دخلنا بيوتنا. وقدم رسول الله... حين دخلنا البيوت، فكان أول من رآه رجل من اليهود، وقد رأى ما كنا نصنع وأنّا ننتظر قدوم رسول الله... علينا، فصرخ بأعلى صوته: يا بني قيلة هذا جدّكم قد جاء» (سيرة ابن هشام).ما أثار الاضطراب عند المفسرين القدماء هو صيحة اليهودي اليثربي: «يا بني قيلة، هذا جدكم قد جاء». وبنو قيلة هم الأوس والخزرج. فكيف يكون النبي جدّاً للأوس والخزرج معاً؟ هذا أمر غير معقول، وغير ممكن إذا أخذناه بالمعنى الجينولوجي. فالنبي يفترض أن يكون مكياً وهؤلاء يثربيون، وهو عدناني شمالي، في حين أن الأوس والخزرج قحطانيون يمانيون، كما لا تفتأ المصادر العربية تكرر لنا. ثم كيف يمكن للرسول أن يكون جداً للقبيلتين، وهو الذي يعيش بينهما وفي زمنهما؟!
للتغلب على هذه المشكلة، طرحت ثلاثة حلول:
الأول: أنّ كلمة «جد» في الحديث تعني «حظ»: «هذا جدكم قد أقبل، أي: حظكم وسعدكم» (العصامي، سمط النجوم العوالي). يؤكد مصدر آخر: «هذا جدكم قد جاء، يعني: حظكم» (ابن عبد البر، الدرر).
الثاني: تجاوز الكلمة الملغزة «جدكم»، واستبدالها بكلمة أخرى «صاحبكم» على فرض أن هذه الكلمة هي المقصودة وأن ثمة تصحيفاً قد حدث حتى لو لم يصرح بذلك: «فإذا رجل من اليهود يصيح على أطم بأعلى صوته: يا بني قيلة هذا صاحبكم قد جاء» (ابن سعد، الطبقات الكبرى). والأطم حصن محدد.
بلاط المسجد الحرام في مكة ـ القرن السابع عشر (متحف والترز ـ بالتيمور)

ثالثاً: أما بعض المحدثين الذين أدهشتهم غرابة هذا الخبر، فقد ربطوه بخبر آخر معروف من جزء ابن الغطريف، وفيه يسأل عمر بن الخطاب الرسول: «يا رسول اللّه؛ مَا لَكَ أفصحنا ولم تَخرج من بين أَظْهرِنا؟ قال: كانت لغةُ إسماعيل قد دَرَست، فجاء بها جبريلُ عليه السلام فحفَّظَنِيهَا، فحفظتُها» (المزهر، السيوطي). وقد أخذت جملة «مَا لَكَ أفصحنا ولم تَخرج من بين أَظهرنا؟» على أنها تضع شكوكاً حول كون الرسول قرشياً مكياً. فهي حسب قول بشير: «تضع الهاشميين، وخاصة بني عبد المطلب، خارج قريش» (سليمان بشير، مقدمة في التاريخ الآخر، ص 162). بل إن بشيراً يثير علامة استفهام ليس فقط حول الأصل المكي للنبي، بل حول أصله العربي: «وحتى أن الرواية الأخيرة تتضمن إشارة ملفتة للانتباه إلى كون الرسول ذا نسب ولغة غير عربيين» (المصدر ذاته، ص 51).
نحن نعتقد أن فهم هؤلاء المحدثين لجملة «يا بني قيلة، هذا جدكم قد جاء» ولجملة «ولم تخرج من بين أظهرنا» خاطئ تماماً. كما أننا نعتقد أن التخريجتين القديمتين اللتين وضعتا من أجل فهم كلمة «جد» في حديث بني قيلة، غير صالحتين أيضاً. فلا الجد هنا تعني الحظ، ولا تغيير الكلمة يلغي وجود المشكلة. ما لم يدركه الطرفان ـ المحدثون والقدماء ـ أنّ الخبرين يتحدثان عن تقليد ديني. فلم يكن اليهودي اليثربي يقرر شجرة نسب الرسول، أو شجرة نسب الأوس والخزرج حين صاح صيحته. كما أن عمر بن الخطاب لم يكن يقرر نسب الرسول ومكان مولده حين قال جملته. اليهودي اليثربي كان يقرر حقيقة دينية ميثولوجية. وعمر بن الخطاب كان يقرر حقيقة أخرى من نفس الطراز. وقد كانت الحقيقة التي قررها اليهودي في صيحته في ظهيرة يوم وصول الرسول مهاجراً، مفهومة للأوس والخزرج، ومفهومة للرسول وصحبه يومها. لكن في ما بعد، حدثت قطيعة جعلت هذه الحقيقة تبدو كأنها لغز كبير.
أما الحقيقة التي قررها اليهودي، فهي أن اسماعيل هو الجد الإلهي الديني لبني قيلة، أي الأوس والخزرج، بعدما صارت كتلة مركزية منهم مسلمين إبراهيميين. ولأن الرسول كان امتداداً لإسماعيل أو تجسيداً له في زمن جديد، فقد صاح اليهودي اليثربي صيحته التي تعني: هذا إسماعيلكم قد جاء. لهذا قال بدوي مرة للرسول: «عُد عليَّ مما أفاء الله عليك يا ابن الذبيحين» (ابن الأثير المحدث، النهاية). والذبيحان عبد الله وإسماعيل. بالتالي، النبيّ متابع لتقليد إسماعيل. بل إنه في الواقع إسماعيل آخر في زمن جديد. لذا كان الرسول يصرّ دوماً على أنه ابن إبراهيم: «ورأيت إبراهيم وأنا أشبه ولده به» (ابن كثير، البداية والنهاية). وكي يكتمل التقليد، فإنَّ الرسول سمى ولده من مارية القبطية باسم أبيه إبراهيم: «أخبرنا ثابت عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وُلد لي الليلة ولد، فسميته باسم أبي إبراهيم» (ابن الأثير المؤرخ، أسد الغابة). عليه، فمحمد ابن إبراهيم، وأبو إبراهيم أيضاً.
إذن، كان يهودي يثرب يشير إلى هذه الحقيقة حين صاح صيحته الشهيرة. كان يشير إلى أن الأوس والخزرج هم أبناء إسماعيل دينياً، وأن ديانتهم إسماعيلية الطابع، وأن الرسول كان إسماعيل الزمن الجديد، أي إنه كان يمثل أصلهم الديني، وأنه كان رمزياً أباهم الديني. والحقيقة أن الأوس والخزرج كانوا من طائفة «الحلة» التي كانت طائفة الرسول في الجاهلية. وهذه الطائفة تجعل الذبيح في مركز معتقداتها. من أجل هذا، كان الذبيح عبد الله منها. وهذه الطائفة قريبة جداً من الملة الإبراهيمية. بل كانت ملة إبراهيمية مخلوطة بالوثنية الجاهلية. بالتالي، فالأوس والخزرج كانوا دينياً تحت قيادة عبد المطلب جد الرسول قبل الهجرة بزمن طويل. أما الحمس، فلم تكن طائفة إسماعيلية- إبراهيمية. 
لدينا خبر غريب عن يوم وصول الرسول مهاجراً إلى يثرب، يكشف فهم يهود يثرب لطبيعة الديانة المحمدية


أكثر من ذلك، فمارية القبطية ذاتها هي الأخرى تقليد في ما يبدو. فهي سرية قبطية مصرية، ومهاجرة، مثلها مثل هاجر زوجة إبراهيم وأم إسماعيل. التقليد يواصل نفسه. بل إنَّ شكَّ الرسول في لحظة ما في نسبة إبراهيم ابنه إليه، يدخل في باب التقليد أيضاً. فمن ضمن التقليد أن يتم الشك في المولود وأنْ يثبت نسبه بعد تدخل إلهي: «وفي المسند من طريق أنس أنّ رسول الله... حين ولدت له مارية ابنه إبراهيم وقع من نفسه منه شيء، حتى نزل جبريل عليه السلام، فقال له: السلام عليك يا أبا إبراهيم» (السهيلي، الروض الآنف). التقليد الديني يقتضي أن يكون هناك شك. 
بناء عليه، فما دام النبي هو إسماعيل في عصر جديد، فهو بالتأكيد طراز من جد للأوس والخزرج، الذين يتبعون الملة الإبراهيمية- الإسماعيلية.
أما الجملة الأخرى في الخبر الآخر «ولم تَخرج من بين أَظْهرِنا»، فلا تعني أنَّ الرسول ليس مكياً، بل تعني أن أصله إلهي. فهو مثيل إسماعيل الذبيح، ابن إبراهيم خليل الله. ولم يكن بإمكان إبراهيم أن يكون «خليلاً» لله، أي صاحباً ورفيقاً، لو لم يكن ذا أصل إلهي، أو ذا طابع إلهي. وبما أنّ محمداً الرسول امتداد لنسب إبراهيم الإلهي، فأصله إلهي أيضاً. من أجل هذا، أحال الرسول عمر بن الخطاب إلى علاقته بإسماعيل: «كانت لغةُ إسماعيل قد دَرَست، فجاء بها جبريلُ عليه السلام فحفَّظَنِيهَا، فحفظتُها». لم يكن الرسول محمد استعادة لإسماعيل الذبيح فقط، بل كان استعادة للغة الذبيح إسماعيل التي درست، أي العربية. بذا فالرسول لا يستعيد إسماعيل فقط، بل يستعيد العربية ذاتها. بذا فهو أصل هذه العربية. هو لم يأخذ هذه اللغة من بين طراني قريش بل ممن أعطى لقريش لغتها: إسماعيل بن إبراهيم.
حكاية بني أسلم
ولدينا خبر آخر حيّر المفسرين القدماء لأنه لم يفهم على وجهه، وهو يؤكد ما قلناه أعلاه. في هذا الخبر وصف الرسول «بني أسلم» اليثربيين بأنهم أبناء إسماعيل: «مرّ رسول الله... بأناس من أسلم وهم يتناضلون، أي يتبارون برمي السهام، فقال: «ارموا يا بني إسماعيل فإن أباكم كان رامياً»» (مسند ابن أبي شيبة).
المشكلة التي خلقها الخبر أن بني أسلم مثلهم مثل كل عشائر الأوس والخزرج يمانيون، في حين أن الرسول هنا يصفهم بأنهم إسماعيليون. والإسماعيليون تعني عند النسابين أنهم عدنانيون شماليون لا قحطانيون يمانيون جنوبيون. يقول الصحاري تعليقاً على هذا الخبر: «والذي عليه الجمهور من أهل العلم بالأنساب: أنَّ إسماعيل لم يلد اليمن [أي لم يلد قحطان]» (الصحاري، الأنساب). وهكذا فجمهور النسابة على أنَّ اليمن لا علاقة له بإسماعيل، فهم قضاعيون خزاعيون، أي يمانيون، فكيف يصفهم الرسول بأنهم بنو إسماعيل؟ التخريجة التي حاول بعضهم الإتيان بها أنهم ربما نسبوا هنا إلى زوج أمهم: «ويحتمل أن يكون نسبهم إلى ماء السماء على زعمهم فإنهم ينتسبون إليه كما ينتسب كثير من قبائل العرب إلى حاضنتهم وإلى رابهم، أي زوج أمهم، كما سيأتي بيانه في باب قضاعة إن شاء الله» (السهيلي، الروض الآنف).
نعتقد أنه ليس من حاجة إلى كل هذه التخريجات. فإشارة الرسول في الحديث ليست إشارة أنساب، بل إشارة دينية. فحين قال عن بني أسلم إنهم من ولد إسماعيل، فلم يكن يحدّد نسبهم الجينولوجي، بل نسبتهم الدينية. فبنو أسلم، مثلهم مثل الرسول، ينتسبون إلى تقليد ديني هو تقليد إسماعيل، وليس أكثر من ذلك. فهم يمانيون بالنسب، إذا صدّقنا المصادر العربية، لكنهم إسماعيليون بالمذهب.

* شاعر فلسطيني