يواجه جوزيف انطوان توسان دينوار (1716-1786) الأطروحات الفلسفية المناهضة للدين بالدعوة إلى الصمت إزاء الحقائق الدينية الراسخة، مدافعاً عن سلطة الكنيسة والدولة، معتبراً الفلسفة و«فن الكلام» ضرباً من الهرطقة والتجديف. ذلك أن الإفراط في الكلمات ونشر الكتب الفلسفية أشبه بالسمّ الذي يفسد الدولة والأخلاق والدين. لكن هذا القس الفرنسي الذي عاش في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، لا يكتفي بمثل هذه الموعظة، إنما يحفر في كتابه «فن الصمت» (1771) الصادر أخيراً بترجمته العربية عن «دار نينوى» (ترجمة قاسم المقداد) بطبقات هذه المفردة وتشعباتها لإجهاض أفكار عصر الأنوار والنزعة الفردية، محذراً من الانزلاق إلى ما هو دنيوي وعقلاني، معوّلاً على فصاحة الجسد من جهةٍ، ومتطلبات أخلاقيات الصمت في الكلام والكتابة، من جهةٍ أخرى.

يشير دينوار إلى أن المرضى «ضائعون بين اللسان والقلم». والمرضى هنا، هم الفلاسفة الجدد، أولئك الذين زعزعوا اليقينيات الدينية، فكان لا بدّ من «الإمساك باللسان» تدريجاً ليكون الإنسان مؤمناً صالحاً «الصمت أول مراتب الحكمة. والثانية عدم الإفراط في الكلام، وحسن صياغة الخطاب. والثالثة معرفة أن يتكلم المرء كثيراً من دون رداءة أو أطناب» يقول. يضع هذا القس الصارم تصنيفاً لأشكال التزام الصمت وأثرها على الآخرين: «عليك ألا تقطع صمتك إلا إذا كان ما ستقوله أفضل من التزامك الصمت». هكذا يتفوّق الصمت على الكلام، لأنه لا يعرّضنا للخطر مثلما يفعل الكلام. وتالياً، فإن «تربية الصمت» نوع من السيطرة على الذات، وسيادة على النفس والأهواء، وفضيلة لإسكات اللغة، وإنطاق الصمت ببعده الروحاني، فإغلاق الفم، وفقاً لما يقوله لا يعني الصمت.
علينا إذاً، أن نراقب حركة الوجه، فهو يتكلّم عوضاً عن اللسان، وبناءً على ذلك يمكننا إدراج فن الصمت في تقاليد بلاغة الجسد، مذكّراً إيانا بأن الصمت أحد المكوّنات الأساسية للفصاحة (الصوت والحركة/ الأذن والعين). عدا اعتناء القس دينوار بالبعد الديني للصمت، فإنه يفتح أقواساً أخرى تنطوي على قطيعةٍ ما بين الدين والأخلاق لصوغ نظام مختلف للممارسات الاجتماعية، ما يجعل المعتقدات الدينية موضوعاً للاستعمال، محل المنظومة التي كانت تجعل من المعتقدات نظاماً مرجعياً للممارسات. وإذا بفصاحة الجسد تذوب في بلاغة دنيوية ومدنية لجسد اختُزل بالوجه فقط. وسيعرّج بانتباه نحو «الصمت السياسي» لجهة الحذر والاحتراز والاحتراس وإخفاء النوايا «ممارسة نصف القول»، كإجراء يهدف إلى السيطرة على النفس، أكثر مما يشكّل تدبيراً للسيطرة على الآخر. ولكن ما علاقة الصمت بالكتابة؟ يجيب: «ينبغي الاستعداد للكتابة في زمن الصمت والدراسة. لمَ الاستعجال وركوب رغبة أن تصبح مؤلفاً؟ انتظر، ستتمكّن من الكتابة حينما تعرف كيف تصمت وتفكّر». هكذا يجد أن مثالب اللسان رهن بسوء التعبير أو الإفراط بالكلام أو في عدم كفايته، مؤكداً أن الصمت قد يكون بالغ اللزوم لعددٍ من المؤلفين «إما لسوء ما يكتبون، أو لإطنابهم في ذلك». الكتّاب الجيّدون، من وجهة نظره، أشبه بالنحلة التي تقوم بعمل ثمين، والكتّاب السيئون هم أولئك الذين يفسدون الورق بما يُضجر القارئ ويهيّج العقول بما لا ينبغي الإفصاح عنه علناً.
المرضى بالنسبة إليه، هم الفلاسفة الجدد الذين زعزعوا اليقينيات الدينية


ستتكشّف تدريجاً خشية هذا القس من غضب الكنيسة والحاكم كواحد من بقايا حرّاس محاكم التفتيش. لذلك سيعلن سخطه على الكتّاب الذين يدسون أنوفهم في قضايا الحكم، محذّراً من سطوة الفلاسفة والمؤلفين على الشارع، وضرورة ردعهم عن المجاهرة بأفكارهم المسمومة «لنتعلّم كيف نتحكّم بألسنتنا، وهي مبادئ لازمة أيضاً لضبط استخدام القلم». عند هذا الحدّ يهدينا دزينة من المبادئ الضرورية للتعبير، أولها «علينا ألّا نكفّ أبداً عن الكتابة، إذا كان ما نريد كتابته أفضل من الصمت». وهنا ينصح أصحاب الكتب السيئة بأن يسقط القلم من بين أصابعهم «قبل أن يسكبوا فوق الورق هذا الكم من الهجاء الدنيء، والغراميات الإجرامية، والأخطاء بحق الإيمان». وفي المقابل يدعو العدالة أن تُظهر كل ما فيها من قسوة «وتمتشق حسامها لتضرب على أيدي مخترقي المقدّسات بوصفهم مجرمين نالوا من الذات الإلهية، والقبض على الإباحيين وملاحقتهم بموجب القانون»! نصائح أخرى يبثها القس دينوار في مديح الصمت والسكوت عمّا نجهل. يقول: «علينا التفكّر حول ما نريد كتابته، والطريقة التي نريد أن نكتب بها. العلاج سهل، إذ لا يلزم سوى العودة إلى العقل، والتفكير لتهدئة الحركة الأولى وتصحيحها». لكن إعمال العقل هنا يعني ألا تقترب من أسوار الكنيسة وأسرار السلطة السياسية، وإلا فإنك ككاتب تقترف جرماً ينبغي محاسبتك عليه كمهرطق في المقام الأول، فالكلمة أو اللفظة، إن ساءت صياغتها، أودت إلى الأخطاء، والاختلاف، والهرطقات، ودمار الدين، وهدوء الدولة، ما يجعلها مسمومة. يتساءل: «ما الذي يصيب العالم إن ملأناه بكتاباتٍ ضارة، وتغاضينا عن إبراز الكتابات النافعة؟ الأولى سمّ زعاف والثانية ترياق». كتب القس دينوار بحثه هذا بتوصية من الكاردينال لو كامي بقصد مواجهة «فن الكلام» وإسكات الفلاسفة المتحذلقين (!) فذهب بعيداً في تجميل فن الصمت وتحذير أصحاب الألسنة الطويلة من خطر التكلّم. لكن ريح عصر الأنوار أطاحت بوصاياه ودفنتها عميقاً. ما كان متداولاً في القرن الثامن عشر في أوروبا، نعيشه اليوم في شرقنا الحزين، فقبل فترة، وبقوة الوصايا نفسها، اغتيل الكاتب العراقي علاء المشذوب أمام منزله في كربلاء بـ 13 طلقة. اصمتوا تصحّوا!