الكلب الضخم الذي أحضرته إلى البيت سمّيته تروتسكي. أردت أن أسمّيه التوحيدي، باعتبار أني أحب أبا حيان التوحيدي كما أحب تروتسكي. إلا أن الأمر سيبدو للبعض كما لو أنه شتيمة في حق التوحيدي. إضافة إلى ذلك، هذا الاسم يحيل على التوحيد، وهذه مشكلة أكبر من شتم التوحيدي، بل إن الأمر قد يتحول بسرعة إلى أزمة عالمية وإلى تهمة خطيرة لها علاقة بالتورط في صراع غريب بين الأديان والحضارات.لا أبحث عن مشاكل إضافية وعبثية كهذه، لذلك احتفظت بحبّي للتوحيدي في سرّي وسمّيت الكلب الضخم الأبيض ذا الفصيلة النبيلة: تروتسكي. تروتسكي فقط. هذا لن يخلق أي أزمة بيني وبين الشيوعيين القدامى الذين أصبحوا اليوم عَجَزَةً حكماء يجلسون قرب مدافئ رأسمالية عتيقة الطراز ويتذكرون نضالاتهم القديمة بحسرة وقصص حبهم المثالية برفقة طالبات جميلات وثائرات بشعور مقصوصة كالرجال وعيون شهوانية ومؤخرات مشدودة داخل جينزات الديلافي.
الشيوعيون يحبون الكلاب ويحترمونها ويتبنّونها. أفضل وسيلة لجلب الحنين والذكريات إلى بيت من دون مجهود كبير هي تبنّي كلب، خصوصاً بعد التقاعد. تجلس قرب المدفأة بعد العشاء المبكر، الموسيقى تأتي من الغرامافون الذي نجا من الحرب ومن العولمة ومن الغزو الرقمي الفتاك، وحيداً طبعاً، من دون زوجة، بينما الكلب يقعى قرب قدميك كماسحة الأحذية العذراء اليتيمة التي صادفتها يوماً عند مدخل مترو الأنفاق أو في حلم فقط. تلقي قطعة حطب في المدفأة، تمسد فرو الكلب بيدك المتغضنة الراعشة، تأخذ نفساً عميقاً، تترك للموسيقى أن تتخلل في أعماقك وتمتزج بها، المقطوعة نفسها التي سمعتها قبل خمسين سنة، تغمض عينيك على الحاضر وتحن وتتذكر.

تروتسكي مع أسرته بفي آلمَا أتَّا (1928)

لقد كان زمناً رائعاً من دون شك، مفعماً بالأحلام والحيوية والرومانسية، رغم كل ما يفترضه الجدل والصدام الدامي والمظاهرات العمالية من واقعية. بعد الخروج من المعتقلات وانهيار العالم، وتحول كل شيء إلى سلع، وموت ستالين وماو، وتحول الجماهير من أجنحة إلى مخالب وأنياب والقادة الذين حفظوا البيان الشيوعي عن ظهر قلب من مخلّصين إلى طغاة، يكون الحل الوحيد الذي فضل أمامك هو تربية كلب.
هكذا أتخيّل الشيوعيين القدامى. إنهم لا شيء من دون كلاب بعد عمر يناهز قرناً. بالتالي، ومن دون شك، لن يزعجهم أن أسمّي كلبي: تروتسكي. بل لعلهم يعتبرون ذلك نوعاً من التكريم الحسن لمعتقداتهم أن يسمّي شخص أقرب المخلوقات إليه باسم أحد زعمائهم الروحيين، أو بالأحرى باسم أحد زعمائهم الماديين.
بل وتأكيداً مني لهم على ذلك، لا أنادي كلبي: تروتسكي، فقط. بل: الرفيق تروتسكي. نمشي معاً إلى كل مكان، ونقتسم كل شيء، في كمونة واضحة، ابتداءً من غرفة النوم إلى شمس الحديقة إلى العشاء. أطبخ وأضع طبقين فارغين أمامي، بينما الطنجرة تغلي، واحد لي وواحد لتروتسكي، بل واحد لتروتسكي وواحد لي، حيث إني لا أبدأ الأكل أبداً إلا بعد أن أتأكد أنه بدأ أولاً. بعد ذلك أخاطبه هكذا بكل احترام: فلنصعد إلى فوق أيها الرفيق، ما رأيك؟ لدينا عمل كثير علينا القيام به قرب المدفأة، أوراق كثيرة علينا ملؤها يا بطل. يحرك ذيله بالإيجاب ويسبقني متحفزاً إلى الأدراج. الثلج يتساقط في الخارج باستمرار، والاقتراب من المدفأة بالنسبة إليه يعدّ عملاً جيداً شبيهاً بتحويل بياض الأوراق إلى سواد، أو بتحويل الثلج إلى دفء.
في ما مضى، كان كل شيء بالنسبة إليّ على ما يرام. بعد ذلك، ضجرت من الناس. وبعد ذلك ضجرت من نفسي. يمكن القول إني ضجرت من الإنسان بصفة عامة، الإنسان الذي ليس هو أنت فقط بل هو أنا أيضاً. لقد قال الرفيق سارتر ذات مرة إن الآخر هو الجحيم. مع الوقت، وجدت أن الآخر هو أنا نفسي حين أظل وحيداً أيضاً، تبدأ نفسي بالوسوسة، كما لو أن الآخرين جميعاً هم أنا نفسي.
ذات مساء، ملأت غليوني بالتبغ ونظرت طويلاً من النافذة، ورأيت الغربان تعود صاخبة إلى أشجار الضاحية. وبعد ذلك قلت كما لو في لحظة استنارة بوذية: الإنسان هو الجحيم.
يمكنك الهرب من الآخرين، إلا أنك لن تستطيع أبداً الهرب من نفسك. إنها ورطة كبيرة. ورطة بلا مخارج إغاثة. ورطة تتجاوز حتى أعمارنا إلى زمن أبدي لا نهائي، فكل المعتقدات تقول إن الإنسان سيبعث بعد الموت ليخلد إما في الجحيم وإما في الجنة، الأمر الذي يعني من دون شك أن السماء أيضاً ستتعرض للتخريب حين سيحدث ذلك. سواء في الجنة أو في الجحيم سيظل الإنسان هو الإنسان ولن يصنع سوى الكوارث.
حسناً، لست متشائماً إلى هذا الحد، بل أحب هذه الحياة كثيراً، ولذلك ما زلت حياً. مراراً فكرت في بلع علبة منوم كاملة، إلا أني وجدتها دائماً فكرة سخيفة، فعدلت عنها. لن أفعل ذلك أبداً ما دام هناك آيس كريم وشمس دافئة وعشب وغابات ومياه ونساء جميلات، وما دام هناك تبغ جيد ونبيذ معتق. لن أستعجل الصعود إلى السماء ما دمت سأصعد عاجلاً أو آجلاً. الموت لن يهرب، إنه ينتظرني، وبالتالي لماذا عليّ استباق الأحداث والركض في اتجاهه.
هناك كثير من الآيس كريم بنكهات متعددة، وكثير من المتعة والحب هذا صحيح، لكن الجميع في هذا العالم في حقيقة الأمر يحارب الجميع. أحياناً حرب باسم الكراهية، وأحياناً حرب باسم الحب، وليس بينهما برزخ أو هدنة. الجميع يتألم رغم أن الفواكه طازجة، والجميع يشعر بغبن رغم تفتح الورود، والجميع يحيك الدسائس للجميع رغم أن الموت يحيك أكبر دسيسة للجميع. أنا أيضاً لو أصبحت رئيساً أو زعيماً أو جنرالاً، فلا بد أني كنت سأكون مجرماً كبيراً. على الأقل أنا الآن مجرم صغير فقط، أشتم أحياناً أو أخدع الناس خداعاً صغيراً إن اضطررت إلى ذلك، وأحياناً أركل صرصاراً أو أدوس عنكبوتاً أو آكل دجاجة عاجزة عن الدفاع عن نفسها. إنها جرائم صغيرة ولذيذة، إلا أنها رغم ذلك تظل جرائم إن أردنا مزيداً من الوضوح والمكاشفة والدقة. جرائم لا تصل إلى مستوى إبادة شعب أو التآمر على دولة أو إعطاء أمر للجنود من أجل الهجوم على قرية هاجعة على ما يبدو، إلا أن ذبح دجاجة لا يقل ترويعاً للسحاب رغم ذلك. وماذا بعد؟ إنها ورطة فحسب. إما أن تأكل أو أن تؤكل. وحتى حين تحترف الأكل، لن تفلت أنت أيضاً من أن تؤكل. حتى إن عمرت قرناً، ستموت أخيراً، وستجد الديدان في انتظارك بالسكاكين والشوكات والصحون الفارغة في أيديها.
ذلك المساء جلست طويلاً مع نفسي، وقبل أن أنهض قلت: الإنسان هو الجحيم، وقررت بعدها مباشرة تبنّي كلب. كلب ضخم دون شك. لا أحتمل كثيراً الكلاب الصغيرة، إنها تفتقد الجدية اللازمة التي توافق مقاماً كهذا شبيهاً بتقاعد. الكلب الضخم محترم إلى أبعد حد، كفيلسوف كلبيّ، بينما كلاب الكانيش الصغيرة ثرثارة كالسياسيين، لن تفهم كثيراً هذه العزلة، بل ستفسدها عن غير قصد بحركاتها الكثيرة ونشاطها الزائد وتهريجها غير المضحك. لا يمكن اعتبارها شيوعية حتى، بل رأسمالية للغاية، لن تناسب الغرامافون والموسيقى الكلاسيكية والكتب العتيقة واللوحات الباهتة وغير الأصلية على الجدران والتبغ اليدوي وكآبة هذه المساءات الرخية وكتابة الروايات.
حسنا، تروتسكي كلب ضخم وانتهى الأمر. عاقل ورزين ويفهم معنى أن يكون الإنسان هو الجحيم. إنه يجلس قربي كملاك حارس، ناظراً إلي بعينيه الشفوقتين، مدركاً ومتفهماً بعمق معنى أن أكون إنساناً.
كلب جيد ونبيل ومتطلباته قليلة: نزهة قصيرة كل مساء، قليل من الطعام، ربع ساعة من المداعبة لفروه الأبيض الكثيف، وكثير من الصمت. هذا كل شيء.
أنا سعيد الآن برفقة كلبي. نكوّن معاً عائلة سعيدة وصامتة. لقد صُمت عن الكلام تقريباً، وتعلمت بعض النباح ليفهمني تروتسكي أفضل وأفهمه. نجلس قبالة المدفأة كل مساء كمتقاعدين في دار عجزة هادئة تحيطها أشجار عارية، هو يصغي إلى السمفونيات ويغفو وأنا أكتب. نستيقظ باكراً. أعدّ قهوة لي وأصبّ له بعض الحليب. أجلس عند النافذة قبالة النهار أتأمل، بينما يريح تروتسكي قائمتيه على حافة النافذة ويراقب طيوراً وأشجاراً وقططاً وأشياء أخرى أجهل كنهها. أقصد المطبخ عند الثانية عشرة زوالاً. أطبخ بينما يقعى تروتسكي عند باب الحديقة. نأكل صامتين. أشرب قهوتي الثانية، عصراً، في الحديقة وأدخن الغليون وأقرأ، بينما يلاعب تروتسكي كرة المطاط الصفراء الفاقعة من دون ضجيج. أنهض وأفتح الباب الخلفي ونقصد البحيرة المجاورة. نتمشى كعجوزين ببطء شديد. يحدق في الماء ولا يسبح. نعود. أهيّئ عشاءً لشخصين. أفتح قنينة نبيذ. نتعشى صامتين، أفرغ لي في كأس وله في صحن زجاجي خاص. إنه نبيذ جيد دائماً. أقرع كأسي بصحن تروتسكي وأخاطبه باحترام كبير للصداقة والعشرة والوفاء: ــــ في صحتك يا رفيق! يحدق بنبل مباشرة في عيني بنظرات خالية من شوائب الغدر، ثم يعود إلى لعق النبيذ. نصعد إلى فوق. أضع مزيداً من الحطب في المدفأة، وفي يدي كأس مترعة أضعها فوق المكتب. أجلس وأكتب بينما يصغي تروتسكي إلى الموسيقى الشبيهة بحركة السحب والغيوم في فضاء طلق وبعيد، ويغفو. بعد العاشرة أكون في فراشي، بينما تروتسكي فوق فراشه عند أرجل سريري. كل شيء على ما يرام. إننا نشكل عائلة سعيدة لا ينقصها شيء.
لا أخفي أيضاً أني أحياناً أناديه: التوحيدي. أحياناً فقط، أقصد بذلك مداعبته فقط حين نكون بمزاج حسن. ينظر إليّ باستغراب كما لو أنه يقول: إنه اسم جميل إلا أنه غريب. أخبره أن اسمه الحقيقي هو تروتسكي، تروتسكي فقط، أما التوحيدي فللدلع فقط، بيني وبينه فقط، من دون أن يسمعنا أحد.
بعد أن أصبح هذا الكلب رفيقي، لم أعد مهتماً كثيراً إن كان الإنسان جحيماً أو جنة. لقد أخذت أفقد بالتدريج طبيعتي البشرية، نائياً بنفسي عن كل ذلك. طبيعتي الآن أقرب إلى طبيعة تروتسكي. إنه متخفّف من كل الأسئلة والأجوبة، وهذا هو أهم ما تعلمته منه. متخفّف من الخير ومن الشر ومن كل شيء بالكامل، كما لو أنه مجرد ريشة، رغم ضخامته، ورغم كل الصرامة والعمق والإمعان في التفكير التي تبدو على ملامحه وهو يحدق فيّ وأنا أكتب، أو حتى وهو نائم كفيلسوف متحجّر في تمثال.
شيء واحد يعكّر صفوي منذ فترة، خصوصاً أمس، لقد أفرطت في الشرب، ونهضت وأنا أتمايل، وخاطبته كما لو أني ألومه، وكما لو أنه هو السبب: ـــ حسناً، أنت كلب جيد، لم أقل عكس ذلك، لكنّ شيئاً ما يشغلني بخصوص كل هذا: أيّنا سيموت أولاً؟ أنا أم أنت؟ هيا تفضّل بإجابتك. إن متّ أنت أولاً، فهذه خيانة، وإن متّ أنا أولاً، فتلك أيضاً خيانة. لا أستطيع أن أتخيّل أنك مت وأني سأظل هنا وحيداً من دونك، ولا أستطيع أن أتخيّل أيضاً أني متّ وتركتك هنا وحيداً، كما قد يترك الرفيق في صحراء رفيقه المصاب ويهرب، تستيقظ في الصباح وأظل أنا ممدّداً على سريري دون نهاية، تنبح قرب وجهي ورغم ذلك لا أستيقظ. على الأقل إن متّ أنت أولاً، فسأستطيع أن أتفهّم خيانتك. أما إن متّ أنا أولاً، فيحزنني منذ الآن أنك لن تستطيع أبداً أن تفهم ولا تفهم خيانتي ولا تقبلها. ما رأيك في كل هذا أيها الشيوعي الأخير؟ لماذا لا تجيب؟ هل سكرت؟ هل بلعت لسانك؟؟
بعد ذلك توجهت إلى الأدراج أتمايل والكأس في يدي، ولم يتبعني تروتسكي. ناديته وأنا أصعد إلا أنه لم يستجب. صعدت آخر درجة بصعوبة مترنحاً وخاطبته من هناك بصوت مرتفع ومتمايل، فارداً يديّ في الهواء: — ألم أقل لك؟ ألم أخبرك بذلك؟ الإنسان هو الجحيم، ولا مهرب من ذلك؟ هل صدقتني الآن أيها الرفيق السخيف؟ هل صدقتني أم أنك مهتم فقط بنباحك وبفروك وبالطعام وبعدم فهم ما سيحدث في الغد؟ حسنا ابق هناك إن أردت، أنا صاعد لأنام، سأشرب كأساً أخرى فقط وأنام، كأساً واحدة فقط وفقط، نم أنت هناك إن أردت، عادي جداً أن تحدث بعض المشاكل بين أفراد العائلات، عادي جداً يا رجل، فقط أطفئ المصباح قبل نومك، فأنا من يؤدي ثمن الفاتورة وليس أنت.

* الرباط/ المغرب