في عام 2008، أصدر الشاعر الفلسطيني المقيم في السعودية أشرف فياض كتابه الشعري الأول «التعليمات بالداخل»، وتعرض بسببه للاعتقال لاحقاً، سنة 2013 تحديداً، وأُطلق سراحه. لكنه في العام الموالي سيجد نفسه معتقلاً من جديد. صدر في حقه حكم بالإعدام تحت ذريعة الإلحاد. وتحت ضغوط شعبية ودولية، تحوّل الحكم لاحقاً إلى ثمانية أعوام من السجن مع ثمانمئة جلدة! تطرح قضية أشرف فياض علاقة السلطة الدينية بالأدب في البلدان العربية، خصوصاً في السعودية.ويعود الشاعر في الفترة الأخيرة ليُصدر عملاً شعرياً جديداً عن «دار الديار للنشر والتوزيع» في تونس. وقد مهّد لمجموعته الجديدة «سيرة مرضية» بإهداء غريب: «إلى حرقة فم المعدة، التي لم تفارقني منذ الولادة»! غير أن قارئ شعر فياض ومتابع سيرته، سيدرك أن ثمة أكثر من حرقة في حياة الشاعر، وفي العالم المحيط به.


في الصفحات الأخيرة للكتاب يجد القارئ امتداداً للعتبة: «العالم هذا الصباح يشبه معدتي المصابة بالحرقة، يشبه الصداع الذي يقضي عطلته الأسبوعية في رأسي، يشبه أكوام الزجاج المكسور التي تملأ ذاكرتي»..
تحفل نصوص العمل الجديد بالكثير من الانفعالات النفسية المحتدمة، إذ يصرف الشاعر كل ما يعتمل بداخله من تفاعلات متضاربة: الطمأنينة والحيرة، الهدوء والصخب، الأمل واليأس، الحنين والقطيعة، الإدراك وعدم الفهم، التحمّل والإحباط، الارتياح والتعب، الحب والكراهية، البساطة والتعقيد، الصفاء والكدر، اللذة والألم. إننا نحس، ونحن نقف على مصبّ انفعالاته، أن المفارقة ممكنة، وأحياناً وافرة، لكن المعجزة غير واردة.
نحسب أن الحياة البطيئة والراكدة، فيزيائياً، التي يعيشها أشرف فياض داخل المعتقل تتيح له أن يصف الكثير من المشاهد بدقة متناهية، ويبرع في نقل تفاصيلها إلى القارئ بإيقاع لا يختلف عن إيقاع تلك الحياة نفسها: «رائحة الملل تملأ الغرفة/ وقلبي كتاب مهترئ مكسو بطبقة كثيفة من التراب/ طفاية سجائر مألوفة للغاية/ أفكار ملتصقة بالجدران مثل ذباب متعب/ عنكبوت عاطل عن العمل يطل على أشجار مصابة بالنعاس/ أصوات قليلة في الخارج/ والبرد سيد الموقف».
تصل عبر النصوص نبرة المشاعر الكتيمة، التي يحاول الشاعر مراراً إخفاءها. فهو في كتابه الجديد لا يريد أن يضعنا وجهاً لوجه أمام معاناته، لا يريد أن يكون كتابه عن السجن، لكن بعض المقاطع الشعرية القليلة جداً، والتي نحسّ كما لو أنها تنفلت منه، كانت كافية كي تضعنا في قلب هذه التجربة الإنسانية المريرة: «عاطفتي انطفأت منذ رحلت آخر مرة/ ولم أعد قادراً على الوصول إليك/ منذ احتجازي داخل صندوق إسمنتي مطعّم بالقضبان المعدنية الباردة/ منذ نسيني الجميع/ بدءاً من حريتي/ وانتهاءً بحذائي المصاب بأزمة في الهوية!».
غير أن نصّ «جلطة دماغية» الذي اختار الشاعر أن يختم به كتابه الجديد، يبدو بمثابة لافتة كتبت بخط واضح على باب السجن. إنها تذهب بنا بعيداً إلى المناطق المظلمة في ذات الشاعر، إلى منبع الألم. فبعد أن يشخص مظاهر التعب الذي هدّه في حياة المعتقل، يستحضر مشهد الوالد الذي عجّل الحزن على ابنه برحيله: «رأيت أبي آخر مرة خلف زجاج سميك/ ثم رحل دون رجعة/ لنقل بسببي/ لنقل إنه لم يحتمل فكرة أن أموت قبله».
الشاعر المعتقل في السعودية أصدر أخيراً مجموعته «سيرة مرضية»


لا يدّعي الشاعر بطولة ما، إنه يعترف في نصّ «تباعد تلقائي» بأنه تعب من كل شيء، من قدرته على التحمل، من «اختلاق الأعذار للّيل» من الأرق والانتظار الطويل.
الاحتجاج تيمة حاضرة في تجربة أشرف فياض، بصيغ ظاهرة أحياناً، وأحياناً مضمرة. وفي حين يرفع الناس في الشوارع والمظاهرات الجماعية شعارات من قبيل «يسقط الفساد» و«يسقط النظام»، يرفع هو في زنزانته، وبصوت فردي، شعاراً آخر: «يسقط الواقع».
إن الواقع الذي يمتد من زنزانة الشاعر إلى خارج أسوار السجن، إلى فضاءات الذين يعتقدون أنهم يعيشون الحرية، هو واقع ينأى بالتدريج عما ينشده الشاعر، كل شاعر. وربما كانت وظيفة الكتابة هي الرفض المستمر لهذا الواقع، أو على الأقل، عدم التماهي معه.
يلخّص النص الشعري القصير «الحبر» نظرةَ الشاعر إلى العالم. رغم ما يتراءى له من عناصر طبيعية مخفزة على العيش (هواء، غيوم، أشجار..) ومن ملذات مثيرة (نبيذ، عطور، موسيقى، جنس..) فهو ما زال «غير مقتنع بأن هذا العالم شيء جميل». هذه العلاقة الملتبسة بمحيط الشاعر ليست وليدة تجربة الاعتقال التي يعيشها الآن، بل هي نتاج تراكم تجارب سابقة، يومئ إليها في الكثير من النصوص، إنها خلاصة ارتطامات متعاقبة مع العالم بعد تجارب متباينة، كالفشل في الحب، ومعاينة الموت، وسوء الفهم وانهيار الأحلام. يختار الشاعر في عمله الجديد أن يبني النصوص وفق قناة تواصلية خاصة، تبدو فيها المخاطَبة امرأة، لا نعرف عنها الكثير، إنها حاضرة في كل النصوص تقريباً، لكنها غائبة في الواقع. إنها امرأة غامضة، وعلاقته بها ملتبسة، بالرغم من أن ظاهر النصوص وباطنها يؤكد أنها علاقة حب. يخاطب الشاعر هذه المرأة البعيدة، أحياناً يشكو لها، وأحياناً يشكو منها، يبكي لها ويبكي عليها. يكون لها في نصوصه تارة ذلك الحضور الشبقي اللزج الذي يصوره الشاعر بفنية واضحة، وتارة تحضر الكاريزما والأفكار، وذلك العقل الذي يصرح الشاعر في نص «وضع الطيران» بأنه أكثر ما يحبه فيها.
إنها امرأة «صعبة»، لذلك لا تنفع معها الحيل العاطفية، ولهذا السبب يكاد ينعدم من النصوص الموجهة لها خطاب الرومانس. لا مكان للرهافة على ما يبدو، فالخطاب الشعري هنا يخلع عنه رداءه العاطفي ويتزيّا بما هو عقلاني. بل إن الشاعر يحار غالباً في حدس مساحات التلقي لدى مخاطبته: «كم مرة علي أن أقرأ دليل الريح، لأتمكن من تفسير التقلبات الحادة في مزاجك؟».
وإن كان يتفادى «الغزل» في كتاباته، فهذا لا يعني بالضرورة أنه عاشق «جاف»، بل إنه يرغب، بوصفه شاعراً ومحباً حداثياً، في تجاوز التعبيرات الوجدانية المتداولة: «فعيناك - في نهاية المطاف أكثر فتكاً من تلك التي صرعت لب جرير، وأكثر شاعرية من غابات نخيل السياب».
اختار الشاعر أن ينحاز إلى اللغة البسيطة المتداولة، متخففاً من البلاغات والمفردات التي قد يتوقع القارئ أنها ستكون ملائمة لطبيعة «قضيته». لذلك جاءت النصوص منسابة من حيث البناء، كما لو أنها اعترافات ومكاشفات يريد الشاعر أن ينقلها إلينا، لا لنبهر بها ونندهش من جماليات لغتها، بل كي نحسّها ونحسّ معها بما عاشه ويعيشه الشاعر، الشاعر الذي سيهدّه الوعي الحاد بالعالم: «الوعي ينهشني من الداخل/ ويقضي على كل فرصي بالنجاة/ الوعي يقتلني ببطء/ والوقت تأخر كثيراً للشفاء منه».
قد يتساءل القارئ المنشغل بالانتماء والتصنيفات الجغرافية، عن حضور وطن الشاعر في شعره، لا سيما حين يكون اسم هذا الوطن «فلسطين». يجيب أشرف فياض في نصه «تشققات جلدية» عن مثل هذا التساؤل بشكل مكثف ولاسع: «وطني مرّ من هنا/ منتعلاً حذاء الحرية/ ثم مضى بعيداً/ تاركاً الحذاء وراءَه!».