في كتيّب صغير جَمَعَ مراسَلةً بين فرويد وأنشتاين في مطلع القرن العشرين حول الحرب ودوافعها، يشرح فرويد بأنّ الغرائز الإنسانية اثنتان: الأولى هي غريزة الاتحاد والبقاء، التي نطلِق عليها اسم الطاقة الأيروسية بكل ما تحمله من خصب وحياة وشهوة وكل معنى يرادف ما عبّر عنه أفلاطون باستخدامه كلمة «شَبَق». أما الثانية، فهي غريزة التدمير والقتل، اللذين يمكن جمعهما بكلمة واحدة تعرفها الإنسانية جيداً لكثرة ما خَبرت من أهوالها: الحرب. والملاحظة التي يوردها عالم النفس الأشهر حول الميزان المنتصب بين الغريزتين في غاية الأهمية: إذ إن إحداهما لا تقل ضرورة عن الأخرى/ بحيث يبدو الأمر كما لو أن إحدى هاتين الغريزتين تستطيع بالكاد أن تعمل بمعزل عن الأخرى وأنها تكون مخلوطة بكمية محددة من الغريزة النقيضة. هذه الثنائية الفرويدية يستلهمها الروائي اللبنائي علي السقا في روايته الثانية «باب الصخر» (دار الفارابي)، حيث يمشي الموت إلى جانب الحياة جنباً إلى جنب، يؤنسهما السقا فيتحاوران ويتبادلان دفة الميزان على طول الرواية.

في القسم الأول من الرواية، تميل الدفة للحياة، التي تسكن قبضة البطل صفوان وقلبه اللذين لا يعرفان إلا الحب: كمثل ابراهيم الهارب من قومه وامرأته وولده إلى واد غير ذي زرع، يهرب صفوان الأرمل وولده وامرأة غريبة أراد زوجها أن يقتلها لأنها لم تلد له ذكراً، إلى أرض صخرية يباب يكاد يقتلهم فيها الظمأ لولا أن يلمحهم صموئيل، زعيم قرية «الحوارة» من أعلى التل ويؤويهم في غرفة مجاورة للكنيسة. في اليوم التالي، يتخذ صفوان قراره بتحويل الأرض الصخرية في الأسفل إلى جنة الأرض: إنها طاقة البناء والحب التي ستكبل أيدي الموت الذي سيبوح بما يلي: «أنا هنا هذا المكان لي، حدّثتني الحياة وهي تفتح ذراعيها رانية إلى الفضاء اللازوردي... ظلت الحياة تطوف باب الصخر تابعة صفوان وولَده من صباح كل نهار حتى غسقه تعاين عرقهما تحت لظى الشمس الحارقة... شبّت باب الصخر بعدما سكنت الحياة زواياها، فقد نمت بضع شجيرات وأزال صفوان دون كلل أجزاء من الصخور تحوّل مكانها إلى بقاع صغيرة للزراعة. كانت وردة السماء برتقالية خالصة عندما أحاطتني الحياة قائلة: الحب هو أنا يا صديقي. الحب ولا شيء سواه يجعلني أهرع إلى أهله».
يحوّل صفوان باب الصخر إلى ما يشبه دويلة صغيرة تعطي «اللجوء» السياسي لكل الهاربين مثله من ماضيهم وحيواتهم القديمة. نقطة التحول في الرواية تكون حين يعشق بولس المنذور للرهبنة، ابن الخواجة صموئيل، فاطمة المسلمة ابنة كريمة، بعد أن يسمع أحد المواويل البديعة التي جمعها الروائي من التراث اللبناني والفلسطيني وأجراها بسلاسة على لسان فاطمة في موسم قطاف الزيتون. تبدأ قصة حب محرم كان يمكن أن تكون كلاسيكية بين شخصين من دينين مختلفين في قلب الشرق الذي يزخر بقصص مماثلة، لولا أن السقا يرفد القصة بتفاصيل تشدنا إلى السرد، من قبيل تضحية كريمة بجسدها لحضّ الخواجة صموئيل على غض النظر عن العشق الممنوع، كأنه استدعاء لبراغماتية التسويات الدنيوية أمام الدوغمائية الدينية، والولدِ ذي الأطراف المشوّهة الذي هو ثمرة ارتباط فاطمة ببولس، كأنه نتيجة ألف سنة من حوار لم يتعدّ السطح بين الديانتين، تشوّه خلقي رغم أن رضا يحمل القلب الأنقى في تمثيله المحبة التي يفترض أن تحملها كل رسالة «سماوية».
تطعيم روايته بنوع من الشعرية تذكرنا قليلاً بالواقعية السحرية


ينشأ نزاع دموي بين صموئيل وصفوان، وتبدو حماسة الرجال للحرب والثأر في «الحوارة» أكثر مما هي في «باب الصخر»، كأن الهوية الثابتة والصلبة في الحوارة، على رقة اسمها، تسهل مهمة دعاة الحرب إلى التحفيز على الكراهية والتدمير، بينما أهل باب الصخر، على قسوة الاسم وهم الهاربون من ثأر أهلهم وماضيهم لن يقفوا في صف مضيفهم صفوان، حين تحاصره خيل بولس العائد إلى دينه ثأراً لأبيه. يستعيد الموت عندها المبادرة في الرواية فيقبض على يد الحياة يفرك أصابعها بلطف «حمَدت الله يا صديقتي أنك انكفأت إلى قمة جبل الأحلام، لأنك كنت ستشاهدين ما يفاقم ألَمَك... منذ الوقت الذي رأيت فيه المشاعل أمام كنيسة الحوارة أدرَكت أنه سيكون لي عمل كثير...لم تكن تلك المقتلة الوحيدة التي شهدت عليها يا صديقتي، فالثأر مثل موقد بفم شره». في قلب دورة العنف، شخصيتان ستحتفظان بالنقاء الذي لا تلوثه ماكينة الحرب والحقد: فاطمة التي تحتفظ في قلبها بالنسخة الأولى من بولس، الذي علمها أن جوهر الدين هو الحب والتي تسور قلبها من الكراهية والحقد اللذين يملآن النسخة الثانية من روحه الساعية نحو الثأر: فاطمة هي الزمن الجميل الذي تكدره الحرب، ورضا ابنها الذي رغم حركته المحاصرة بفيزيونوميته المشوهة، فإن العالم الذي تجنح إليه روحه سيسمح لعلي السقا بتطعيم روايته بنوع من الشعرية تذكرنا قليلاً بالواقعية السحرية لروايات أميركا اللاتينية في مقطع كهذا: «هل ترى تلك الغيوم، إنها قليلة ولن تنهكنا. رفع العود وحرّكه وكأنّه يدغدغ برأسه أقدام غيمة ثمّ هبط بعوده نزولاً حتى ولّت تلك السحابة المكرشة ثم اختفت... هل بإمكانك أن تصنع عصفوراً؟ ارتبك خليل لكنه أعاد العود إلى رضا الذي أخذه وأخذ يرسم هيئة عصفور إلى أن حط عصفور بألوانه الزاهية على عتبة النافذة». الرسالة الأخيرة سيضعها السقا على لسان رضا نفسه، حين يصّعّد في السماء بعد أن يحصد الموت روحه الصغيرة: «أنا حزين مثلك يا جدي. لم يدركوا أنه لولا الحب لما وُجدت باب الصخر»، «بلى يا بني، كما أن الله أحيا الأرض بالماء، جعلها تحيا بالحب أيضاً. عندما يستبدل الناس الحب بالحقد والجشع والنكران، فإن الماء لن ينفعهم ليظلوا أحياء لأنهم سينقلبون إلى ما هم عليه من بؤس تراه الآن».