الجملة أعلاه حديث نبوي مبهم وغريب اللفظ، روي على وجوه عدة إضافة إلى الوجه أعلاه: «لست من دد ولا دَدُ مني»، «لست من دَدّ، ولا الدد مني»، «ما أنا من ددي، ولا ددي مِنّيَة». والاتجاه العام أنّ «الدد» في الحديث هو اللهو واللعب، أو الباطل. بذا فالرسول ينفي عن نفسه تهمة اللهو، أو تهمة الباطل. والمدخل لهذا التفسير كان بيتاً لعدي بن زيد يقول فيه:
أيها القلب تعلّل بددن
إن همّي في سماع وأذَن
إذ فهم أنّ كلمة «ددن» في البيت تعني اللهو والطرب، وأنها صيغة أخرى من صيغ «دد»: «فيه أَربع لغات: تقول هذا دَدٌ، كَيَدٍ، ودَدَاً، كقَفاً، ومثَّله الدَّمامِيني بعَصاً، ودَدَنٌ، بالنُّون ثالثةً، ودَدَدٌ، بثلاث دالاتٍ» (الزبيدي، تاج العروس).
أما أنا فأرى أن الدّد في الحديث هو الكتابة. نعم، هكذا مباشرة. بذا، فالحديث يقول: ما أنا من دّدّ، أي ما أنا من كتب، ولا الدّد مني، أي ولا الكتاب مني، أي من صنعي وتأليفي. أو حسب صيغة أخرى للحديث: لست من ددّ، أي لست من كتب، ولا الدّدّ مني، أي ولا الكتاب من صنعي. ويبدو أن الرسول قال هذا الكلام لأناس من قبيلة كانت تستخدم الفعل «ددّ» للدلالة على الكتابة. أي أنه كلمهم بلهجتهم الفريدة الخاصة، كما اعتاد أن يفعل. وهذه اللهجة التي لم تكن في ما يبدو مفهومة للمفسرين ولا للرواة، ولهذا حصل كل هذا الخلط. بناء على هذا، يمكن فهم أن كلمة «ددن» في بيت عدي السابق تعني الكتابة أو الكلام المكتوب. أي أنه يقول: تعلل يا قلبي بالكلام، أو بالكلام المكتوب، فكل همي يقع في سماعي وأذني. أي أنني أكتفي بالقول عن الحاجات الأخرى. ولعله يشير بهذا إلى الشعر خاصة.
أما بيت الأعشى:
أتـرحـل مـن لـيلـى ولمّـا تزود
وكنت كمن قضى اللبانة من دد
فمن المحتمل أن الدد فيه يعني اللعب. وفي هذه الحالة، فالكلمة على علاقة بكلمة الدودي: «الدَّوَادِي: آثار أراجِيح الصِّبيان، واحدتُها دَوْدَاة» (ابن فارس، مقاييس اللغة). لكن من المحتمل أن الكلمة أيضاً على علاقة بالتعبير العامي عندنا «دود» أو «دوّيد» وهو تعبير يشير إلى المقامرة غير الحقيقية. فحين يلعب الأطفال طرازاً من القمار، يقولون: «عن دود، أو دوّيد»، أي أنها مقامرة لعب، لا يخسر فيها أحد حقاً، وليست مقامرة حقيقية. من هنا يكون الأعشى قضى لبانته، أي حاجته، وهماً لا حقيقة.
يتبقى علينا إذن بيت طرفة بن العبد في معلقته:
كأن حدوج المالكية غدوة
خلايا سفين بالنواصف من دد
عدولية أو من سفين ابن يامن
يجوز بها الملاح طوراً ويهتدي
يشق حباب الماء حيزومها بها
كما قسم التّربَ المفايلُ باليد
ولم يستخدم هذا البيت لفهم حديث الرسول لأن الغالبية ترى أن «دد» هنا واد من الوديان. بذا فلا علاقة لهذا الدد بدد الحديث النبوي.
وقد تعرض البيت في تقديري لسوء فهم شديد. إذ افترض، عموماً وليس دائماً، أنه يتحدث عن السفن والإبحار بشكل ما. وخذ هذا المختصر الوفي من الزوزني في شرح المعلقات في تفسير البيت: «الحدج: مركب من مراكب النساء، والجمع حدوج وأحداج، والحداجة مثله، وجمعها حدائج. المالكية: منسوبة إلى بني مالك قبيلة من كلب. الخلايا: جمع الخلية وهي السفينة العظيمة. السفين: جمع سفينة... النواصف: جمع الناصفة، وهي أماكن تتسع من نواحي الأودية مثال السكك وغيرها. دد، قيل: هو اسم واد في هذا البيت وقيل دد مثل يد، وددا مثل عصا، وددن مثل بدن، وهذه الثلاثة بمعنى اللهو واللعب. يقول: كأن مراكب العشيقة المالكية غدوة فراقها بنواحي وادي دد سفن عظام. شبه الإبل وعليها الهوادج بالسفن العظام، وقيل: بل حسبها سفناً عظاماً من فرط لهوه وولهه، وهذا إذا حملت دداً على اللهو، وإن حملته على أنه واد بعينه، فمعناه على القول الأول» (الزوزني، شرح المعلقات السبع، ص 47-48، الدار العاملية للنشر، 1993)
هكذا فهم البيت إجمالاً. لكنني أعتقد أن الأمر لا يتعلق بالسفن بتاتاً في هذا البيت، ولا بتشبيه الهوادج بهذه السفن. ولنناقش الأمر خطوة خطوة.
أولاً: أن «حدوج» بالجمع في البيت، لكن «المالكية» بالمفرد. من أجل هذا افترض أن المالكية يجب أن تكون مع صويحباتها، وكل واحدة على حداجها، مع أنه لا دليل على وجود هاتيك الصويحبات. بذا يبدو لي أن البيت في الأصل كان يتحدث عن «حداج المالكية»، أي عن مفرد. فمفرد حدوج هو: «حداج وحداجة وحدجة».
ثانيا: أنّ السفين هنا جمع السّفن، الذي هو الإسفين والمسفن: «السَّفَنُ ما يُنْحَت به الشيء، والمِسْفَن مثله» (لسان العرب). يضيف اللسان نقلاً عن ابن السكيت: «السَّفَن والمِسْفَن والشَّفْرُ أَيضاً قَدوم تُقْشر به الأَجذاع» (لسان العرب).
ثالثاً: أما الخلايا هنا فمن جذر: خلي، الذي يعطي معنى القطع: «الخَلْيُ القَطْع، والسيف يَخْتَلِي، أي يقتَطع. فكأنَّ الخلا سُمِّي بذلك لأنّه يُخْتَلى، أي يُقْطَع» (ابن فارس، مقاييس اللغة).
بذا، حق لنا أن نفترض أن الخلايا ربما كانت تشير إلى القطع أو الحفر بالسفن، أي المسفن. أي أن المعنى: حفائر إسفين، أو ضربات إسفين وقطعاته.
رابعاً: أما النواصف فقد فهمت على أنها مجاري الماء: «النواصِفُ مجاري الماء في الوادي، واحدتها ناصفة» (لسان العرب). أما الأودية الصغار، فتدعى المناصف «المَناصِف: أَودية صغار» (لسان العرب). ولا أعرف كيف افترض أنّ هناك ودياناً في الجزيرة العربية تمخر فيها السفن الضخمة. والحقيقة أن الأمر لا يتعلق بمجاري الماء بل بالصخور. فالنواصف هي الصخور: «النواصِف: صخور في مَناصِف أَسناد الوادي ونحو ذلك من المَسايِل؛ وفي حديث ابن الصَّبْغاء: بين القِرانِ السَّوْء والنَّواصِف، جمع ناصفة، وهي الصخرة» (لسان العرب). يضيف التهذيب: «والناصفة: صخرة تكون في مناصف أسناد الوادي ونحو ذلك من المسايل» (الأزهري، تهذيب اللغة).
بناء على ذلك، يمكن الافتراض أنّ البيت يقول: كأن حداج المالكية ضربات إسفين على الصخور من الدد، والدد هو الكتابة بناء على افتراضنا. عليه، فالحفر على الصخور- النواصف بالإسفين كان حفر كتابة، وضربات، وانطلاقاً من هذا يمكن فهم التشبيه في البيت. فقد شبه الشاعر حداج المالكة، أي هودجها، المزين بالحفر، بنقوش كتابية عملت بالإسفين على الصخور. انطلاقاً من هذا، فإن بيت طرفة يستخدم «دد» كما استخدمها الحديث النبوي.
غير أن عقبة كبيرة تقف في وجه تفسيرنا هذا. فالبيت الذي يلي هذا البيت يتحدث عن السفن بلا شك:
عدوليّة أو من سفين بن يامن
يجوز بها الملاح طورا ويعتدي
ولحلّ هذا التناقض، فإن اقتراحي أن البيت الأول لم يكن في الأصل جزءاً من قصيدة طرفة، بل أضيف إليها لاحقاً. إذ افترض أن هذا البيت يتحدث عن السفن أيضاً، فأضيف إلى المعلقة. وكل هذا أدى إلى تصعيب فهم «الدد».
إذا صح ما أقول، أي أن الدّدّ هو الكتابة بالحفر على الصخور، فسوف يكون لهذا تأثير هائل على فهمنا للنقوش القديمة في شمال الجزيرة. فهناك مئات النقوش التي تبدأ بكلمة ودد: (ودد فلان). وقد فهمت الكلمة على أنها تعني محبة أو وداداً أو سلاماً. أي النقوش تقول: وداد أو محبة من فلان. لكن يبدو أن الأمر لا يتعلق بالود والمحبة، بل يتعلق بكتابة عن طريق الحفر. فالواو في «ودد» بدئية. أي أننا مع «و + دد»، أي بمعنى «وكتب». عليه، فحين نجد نقشاً يقول: «ودد زيد»، فيجب أن نقرأه هكذا: «ودَدّ زيد»، أي «وكتب زيد». أي أن الكتابة على الصخر هي من فعل زيد.
وخذ كمثل على ذلك النقش KJC 110 من النقوش الصفائية:
ودد شمرخ غلمة ونعرة فتنن
وقد فهم النقش هكذا: أحب شمرخ امرأة وفتاة، مغويتان.
وكما، فشمرخ أصاب اثنتين بطلقة واحدة. والحقيقة أنه لا توجد نساء في النقش ولا حب، بل يوجد حفر وتعب. فقد حفر شمرخ بئراً وناعورة. ذلك أن «غلمة» يجب أن تقرأ «غليمة» وتعني بئراً جوفياً صغيراً. فهناك طراز من الآبار الجوفية يسمى غيلماً: «غيْلَمُ الماءِ في مَنْبَعِ الآبارِ والعُيونِ» (القاموس المحيط). وما حدث أنه جرى هنا تأنيث غيلم فقط هنا. أما «نعرة» فهي الناعورة. والناعورة مجرى مائي: «والنّاعُوْرُ: مَضِيْقٌ في نَهرٍ صَبب كالمِيْزاب» (الصاحب بن عباد، المحيط في اللغة). بذا فقد حفر شمرخ قناة لجر الماء من مجرى مائي.
لكن كيف فعل ذلك؟ فعله «فتتن» أي في التنن، أي بالتنن. لكن من ترجم النقش، فهم أن الأمر يتعلق بالفتنة والإغواء. والتنن طراز من المعاضد، أي السيوف غير القاطعة، التي تستخدم في قطع الأشجار، وربما في حفر الكتابة على الصخور. وقد وردت الكلمة ذاتها في نقش من القرن السابع عشر قبل الميلاد من تل الضبعة «أفاريس» في مصر. وقد نشرت مادة عن هذا النقش قبل فترة وجيزة. القواميس العربية لا تذكر «تنن»، لكنها تذكر «متنن» الذي هو تنويع عليها: «سيف كهام وددان ومتنن... أي كليل» (لسان العرب). بناء عليه، فقد حفر الرجل البئر والقناة بالتنن أو المتنن لأنه لم تكن لديه فأس في ما يبدو.
* شاعر فلسطيني