هذا عوليس فلسطيني آخر، ودون كيشوتي ثائر، وشيوعي في الصميم. لم تخطئ بوصلته مرّة واحدة، الطريق إلى فلسطين. كان معين بسيسو (1926- 1984) يكتب قصيدته كمن يضع اصبعه على الزناد لحراسة البلاد من الغزاة. لن نستغرب إذاً، أن يكون عنوان ديوانه الأوّل «المعركة» (1952). ذلك أن المقاومة كانت في صلب تجربته الشعرية، إذ لا مسافة بين الحبر والدم. لكن هذا اليقين سيهتزّ إثر اجتياح الدبابات الإسرائيلية بيروت التي سيغادرها منكسراً في سفينة إلى اليونان، مخلّفاً قصيدته «لن تدخلوا بيروت» في عراء الجحيم. هكذا بدت إيثاكا الفلسطينية تبتعد عن عينيه، مستبدلاً المتاريس بالخذلان.

وإذا بالقصيدة تجانب الصواب، القصيدة التي لم يشك يوماً بأنها وقود المقاومة والعصيان، فكتب ساخطاً: «إن معظم ديوك الصفحات الثقافية انقلبوا عند العدوان على لبنان إلى دجاجات تبيض في الخوذات الفولاذية للاحتلال الإسرائيلي، وينكشون مزبلة الصمت بمناقيرهم ويبتلعون أقراص منع الكتابة». وسيقول محمود درويش الذي عاش حصار بيروت معه «إنه شاعر مليء بالمظاهرة والشوارع، مزدحم بهتافٍ متدفق، فكيف تلجم شاعراً يؤمن حتى التديّن بأن القصيدة قوة حركة، قوة حزب، قوة قادرة على التغيير الفوري؟». لا تكفي صفة واحدة في رسم صورة هذا الشاعر التحريضي، فهو أيضاً، سيزيف آخر، يحمل صخرته الفلسطينية إلى القمة مثل لعنةٍ أبدية، وهو الكنعاني المنفيّ بين العواصم الذي هتف «خذي جسدي كيساً من الرمل»، وهو الذي استعاد «مأساة غيفارا» و«ثورة الزنج»، وغضب مايكوفسكي، مؤمناً بأن «الأشجار تموت واقفة». بهذه النبرة العالية شيّد فلسطين بحجارة اللغة، وبورد أكثر. الآن، في ذكراه الخامسة والثلاثين، يستيقظ معين بسيسو من منامه، ليستكمل نشيده الطويل غير عابئ بالهزائم والانكسارات، فلفلسطين اسم واحد، ونشيد واحد لا يمكن تزويره «أنا إن سقطت فخذ مكاني يا رفيقي في الكفاح». مات معين بسيسو في لندن إثر نوبة قلبية ألمت به في غرفة في فندق، ودُفن في القاهرة، بعدما رفضت سلطة الاحتلال الإسرائيلي دفنه في غزّة.