نجد في القصائد العبارات الإنجيليّة ذاتها: لتكن مشيئتك؛ أربعين يوماً؛ التجربة؛ وغيرها، لكنّها تأخذ معاني جديدة تنسف سماويّتها المتأصّلة لتصبح مفردات شعريّة. الإله هنا إله طبيعة، إله عناصر بمعنى ما. إنّه الإله الميثولوجيّ ذاته بحيث يمكن لنا قراءة الكتب المقدّسة كتكملة بالضرورة لكتب الحضارات القديمة، الرافديّة على الأخص، بعد حذف الإضافات المرتبطة بكلّ دين من الأديان. الجوهر ذاته، ولكنّ الدلالات جديدة، كما الطبيعة تماماً. نجد مزجاً جميلاً لهذه العناصر بكيمياء جديدة، بحيث لا تبقى إلا الأشياء والطبيعة التي تذكّرنا بخساراتنا. وتصل هذه الجدليّة السماويّة-الأرضيّة إلى أقصاها في قصيدة «قلب ثقيل»، وهي القصيدة المحوريّة، وأجمل قصائد المجموعة. ومنها تحديداً يمكن لنا فهم تجربة سنان أنطون الشعريّة. نقرفص (كما فعل الشاعر والراوي هنا) في فسحة ضيّقة لنكتب فحوى القلوب/ الصناديق تلك، لندوّن بدقّة نبضاتها كلّها كأيّ موظّف أرشيف أمين؛ ففي هذا الأرشيف، هذه القلوب، حيوات كاملة مرّت وانتهت ثم ولدت من جديد، ونحن ما زلنا كما كنّا عليه، ليس لنا إلا تلك الفسحة الضيّقة والتّدوين كما كان الرافديّون يفعلون على الدوام حين أخذوا مادة كتابتهم وأدواتها من حياتهم نفسها. دورة عناصر من جديد لم ولا تُخلَّد إلا بالنار التي تحرق لتُحيي ما مات في الذاكرة.
«قلب ثقيل»، هي القصيدة المحوريّة، وأجمل قصائد المجموعة
لا تقسيمات واضحة في مجموعة «كما في السماء» ولكن يمكن للقارئ تبيّن الفواصل غير المرئيّة؛ فالمجموعة تنتقل من الإنجيليّ إلى الميثولوجيّ (السرديّ للمفارقة) ومنه إلى الطبيعة، بحيث يُطرَح السؤال ضمناً: هل الطبيعة حيّز سماويّ أم أرضيّ؟ تبدو إجابة القصائد أقرب إلى البعد الأرضيّ للطبيعة، بحيث تنتقل القصائد بمنطق محسوب بدقّة من «كما في السماء» إلى «كذلك على الأرض»، ولكن مع الحفاظ على جدليّة التحوّلات. هناك تحوّل بسيط يعتمد على المفارقة في الدلالة المزدوجة للأسماء؛ فالكاردينال نوع من الطيور، وبوق الملاك زهرة. ولكنّ التحوّل الجوهريّ ليس محض مفارقة، بل هو العنصر الأساسيّ في القصائد والحياة. تحوّلٌ يبدأ ويتكوّن من تبادل الأدوار، تبادل اللعنات. تقذف السماء بلعناتها نزولاً، لتردّ الأرض بقذف لعناتها صعوداً. والصعود هنا ليس ارتقاءً على الإطلاق، بل هي دوّامة لانهائيّة تجرف البشر والحجر والعناصر كلّها، نار تُحرق كل شيء ولا نسمع إلا فحيح لهبها الخالد المخلَّد، فيما الوقت ميت، لا معنى لمروره أو انقضائه.
تهدأ الأجنحة وتبقى ريشتها، تسكن الرياح وتبقى الأزهار الهشّة، ترحل الطيور وتبقى فراشة صغيرة وحيدة. ولكنّ هذه الأشياء الصغيرة المهملة هي التي ستؤسّس ما سيأتي. تترك مجموعة «كما في السماء» قارئها في وحشة قاسية حين تنتهي قصائدها بغتة. يبقى وحيداً في مشهد صامت ثقيل، فيستعيد بتلقائيّة الكلمات الافتتاحيّة للمجموعة: «عراقنا الذي في الهباءات». يمنحنا سنان أنطون هذه المجموعة الدائريّة المؤلمة، حيث يبدأ كل شيء من حيث ينتهي، ولا يبقى إلا الهباء، وفسحة ضيّقة لتدوين ما في القلوب. قصائد تبدأ وتنتهي بالعراق، ولكنّ الأسماء متغيّرة بتغيّر الهباءات.