شرميلا سن، مؤلفة كتاب «صوتي مرتفع، وبشرتي ليست بيضاء: فقدان البشر في أميركا والعثور عليهم» (بنغوين بوكس ــ 2018)، الذي يعدّ أشبه بمانيفستو واستعادة لذكريات عن حياتها في كلكتا وحياتها (أو لنقل حيواتها) في وطنها الجديد، تتحدث بصراحة عن تجاربها، بأسلوب لا يخلو أحياناً من المرح، ربما لإخفاء المرارة التي لاقتها في الولايات المتحدة. الكاتبة البنغالية التي تنتمي إلى ما يسمى في بلادها «الطبقات العليا»، غادرت الهند مهاجرةً مع والديها إلى الولايات المتحدة في ثمانينيات القرن الماضي عندما كان عمرها اثني عشر عاماً. درست واجتهدت، إلى أن حصلت على شهادة الدكتوراه من «جامعة ييل»، التي تعد مقرّ نخبة النخب في الولايات المتّحدة. وهي تتمتّع اليوم بوظيفة يتمناها كثر من البيض في تلك البلاد، أي مديرة متنقلة (editor-at-large) لدار نشر «جامعة هارفارد». التقيتها ومعها والدتها في بيروت بناء على طلب عالمة أميركية وصديقة، لمساعدتها في الوصول إلى دمشق، وسرّني التعرف إلى هذه السيدة الفاضلة، مما أضفى على قراءتي مؤلفها تأثراً شخصياً. وللعلم وجدتُ هذا المؤلف عندما كنتُ أبحث عن عناوين جديدة لعرضها في هذا المنبر، ولم أخبرها بنيّتي عرضه، وخلافاً للعادة ابتعتُه من السوق.

لا شك في أن كثراً لديهم روايات عن تجاربهم مع العنصرية بمختلف مظاهرها: على سبيل المثال، بشرتي البيضاء ساعدتني في عدم معاناة أي مشكلة عنصرية عندما كنتُ في ألمانيا، لكنني لن أنسى تعليق أحد الأساتذة الألمان الذي كان مشرفاً على رسالة الدكتوراه عندما قال: «عظيم، أنت أول عربي يفكر على نحو منطقي. أهنئك على هذه الرسالة». أجبته: شكراً على هذه الشتيمة.
على هذا النحو، يسير هذا المؤلف الفذ، الجميل والمحزن في الوقت نفسه. إنه نظرة حميمية للمسألة العنصرية في أميركا، والثمن الذي يدفعه المهاجرون من غير البيض عند محاولتهم أن يكونوا بيض البشرة، والابتسامة تعلو محياهم. تقول الكاتبة في هذا الخصوص إنّه في مقصف الجامعة، استغربت أن الطلاب والطالبات بيض البشرة يفضلون الجلوس إليها وإلى زميلها ذي البشرة السوداء، لكنها بدّدت استغرابها بالقول: «إنهم يفضلوننا لأن وجوهنا بشوشة ونحن دائمو الابتسام. هدف الابتسامة التي تعلو وجوهنا إخفاء غضبنا. دعيت مرة لإلقاء محاضرة في طلاب «جامعة ييل» عن العنصرية، فقررت التحدث بصراحة؛ وإلا ما فائدة شهادة الدكتوراه التي حصلت عليها إن لم تكن صادقة!». قالت إنها خاطبت الطلاب بالقول إنها جلست في يوم ما على مقاعد هذه الغرفة وابتسمت حتى آلمت خديها، وأنها كانت تتحدث إلى زملائها خلف قناع كوميدي، وأنها كانت تأمل لو أنها كانت قادرة على أن تكون غاضبة مثل الطلاب بيض البشرة الذين كانوا يتظاهرون ضد العنصرية المؤسساتية.
تجارب حميمية في مواجهة العنصرية تقدّمها امرأة ذات بشرة ملونة


هل من الممكن أن لون «بشرة الشاب الغاضب» سوداء؟ أو امرأة؟ أو مهاجر؟ تجيب الكاتبة بالنفي لأنّ ثمة مصطلحات مختلفة للإشارة إليهم مثل: سود غاضبين، امرأة غاضبة، مهاجر غاضب! ولأن هذه المخلوقات تهديدية، كان عليها اختيار مفردات أحاديثها، وإيماءاتها وحركاتها وملابسها، كي لا تبدو لمحيطها بأنها مصدر تهديد، أو غير طبيعية، أو غير شكورة لمنحها الإقامة في البلاد! ففور وصولها إلى وطنها الجديد، عملت على استبدال لهجة لغتها الأميركية بالإنكليزية، وكذلك عادات تناولها الطعام ولباسها، وما إلى ذلك.
تعدد الكاتبة أسباب غضبها، فتقول إنها تشعر بالغضب عندما يُقال لها إنها قُبلت في الكلية فقط لأنها من الأقليات، وعندما يعلمها الخبير بأنّ عليها تعلم ست لغات أجنبية كي تنجح في امتحان ثلاث لغات في الكلية، وعندما يخبرها عامل زميل بأنها لا تستحق العمل في المكتب، وعندما يخطئ الزوار فيظنون أن مساعدها أبيض البشرة هو مديرها... وتشعر بالغضب من نفسها عندما تضطر للتظاهر بأنها جاهلة، وعندما تضطر لإخفاء مؤهلاتها، وعندما تلطف حدة نقاشاتها والتظاهر بعدم امتلاكها قناعات، وهي مباراة تبتدع من أجل أن تبقى عضواً في الأقلية التي تجلب تنوعاً لمكان العمل المليء بالموظفين بيض البشرة. وهي أيضاً غاضبة لأنها تزجر ابنها الذي يشكو من أن معلم الصف يخطئ في نطق أسماء التلاميذ ذوي البشرة الملونة. هذه نبذة مختصرة عن محتوى هذا المؤلف، ولا شك في أنّ كثراً من المهاجرين ذوي البشرة الملونة سيجدون أنه يتحدث بلسانهم. لكن الأهمية الأكبر للمؤلف تكمن في أن الكاتبة أطلعت القراء على تجاربها الحميمية في مواجهة العنصرية، كونها امرأة في بلادها، وكونها امرأة وذات بشرة ملونة في وطنها الجديد، رغم وصولها إلى أعالي سلم الوظائف في عالم الأكاديميا.

* Not Quite Not White, Losing and Finding Race in America. penguin books 2018. 224 pp