يدعى الثالوث المكي: اللات والعزى ومناة باسم «بنات الله». وقد فهم الباحثون الغربيون، وتبعهم في ذلك الباحثون العرب، من هذا الاسم أن هذا الثالوث مؤنث كله، أي إنه مكوّن من إلهات مؤنثات. غير أن الحقيقة غير ذلك في ظني. فالأنثى الوحيدة فيه هي العزى. وأودّ هنا أن أعرض للحد الأول من هذا الثالوث، أي للّات، من أجل تحديد طبيعته الجنسية. وقد قادت بعض المصادفات إلى دعم ظاهري لفكرة أن اللات قد يكون إلهاً مؤنثاً. أولى هذه المصادفات أن اللات يتمثل بصخرة، هي الصخرة التي صارت في ما بعد عتبة لمسجد الطائف. وقد ظلت هذه الصخرة موجودة حتى دخول الرحالة الأوروبيين الحديثين إلى الجزيرة العربية في ما يبدو. ولأنه يتمثل بصخرة، فإن الحديث عنه يجري بالتأنيث أحياناً، لكن هذا التأنيث يخص صخرته لا طبيعته الجنسية. وخذ هذا المثال: «وقالوا: بل كانت اللات في الأصل رجلاً من ثقيف. فلما مات، قال لهم عمرو بن لحي: لم يمت، ولكن دخل في الصخرة، ثم أمر بعبادتها، وأن يبنوا بنياناً يسمى اللات» (جواد علي، المفصل). وكما نرى، فجملة «كانت اللات» تعني: كانت صخرة اللات. ولو كان الأمر غير ذلك، لكان على الجملة أن تكون «كانت اللات في الأصل امرأة».
منحوتة حجرية لللات وجدت في الطائف

أما المصادفة الثانية، فهي أن معبد اللات كان يسمى «الربة». وقد ظن كثيرون أن هذا الاسم يعني «الإلهة». وخذ هذا النص من «لسان العرب» كمثل على سوء الفهم هذا: «وفي حديث عروة بن مسعود، رضي الله عنه: لـما أسلم وعاد إلى قومه، دخل منزله، فأنكر قومه دخوله قبل أن يأتي الربة، يعني اللات، وهي الصخرة التي كانت تعبدها ثقـيف بالطائف» (لسان العرب).
هنا في هذا النص، قد يفهم كما لو أن اللات (ربة) إلهة، مع أن الحديث يجري عن صخرة اللات. وقد خدع بهذا النص وأمثاله الدكتور جواد علي العالم المدقق رحمه الله: «وقد عرف البيت الذي بني على اللات «بيت الربة»، ويقصدون بالربة اللات، لأنه أنثى في نظر عابديه» (علي، المفصل، د. جواد، 1970، ج 6، ص 229). غير أن حديث وفد ثقيف المشهور، ينسف هذه الفكرة ويلغيها تماماً: «وفي حديث وفد ثقـيفٍ: كان لهم بيت يسمّونه الربة، يضاهئون به بيت الله تعالى، فلما أسلموا هدمه الـمغـيرة» (لسان العرب). وكما نرى، فبيت ثقيف، أي معبدهم، الذي يرونه نظيراً للكعبة، هو الذي يسمى الربة، وليس «اللات». والربة هنا تعني الدار الضخمة: «الربة: الدار الضخمة. يقال: دار ربة: أَي ضخمة. قال حسان بن ثابت: وفي كل دار ربة خزرجية/ وأوسية لي في ذراهن والد» (الزبيدي، تاج العروس). ويؤكد «لسان العرب» هذا في حديثه عن كعبة نجران: «الربةُ: كعبة كانت بنجران لمذحج وبني الحرث بن كعب، يعظمها الناس. ودار ربة: ضخمة» (ابن منظور، لسان العرب). وهكذا فكعبة نجران، لا إلهة نجران، هي التي كانت تدعى «الربة». كما أن بيت اللات، أي معبده، هو الذي يدعى الربة. الربة صفة للبيت لا صفة للإله.
أما رواية ابن شبه عن هدم الربة، أي بيت اللات، فتقول: «فقام المغيرة... فقال: قبحكم اللّه يا معشر ثقيف، إِنما هي (أي الربة) لكاع حجارة ومدر، فاقبلوا عافيةَ الله واعبدوه، ثم ضرب الباب فكسره ثم علا على سورها وعلا الرجال معه، فما زالوا يهدمونها حجراً حجراً حتى سوّوها بالأَرض» (ابن شبه، تاريخ المدينة). وفي هذا الخبر يتأكد تماماً أن البيت هو الذي يدعى الربة، لا الإلهة المزعومة باسم اللات. فالربة «حجارة ومدر»، أي بناء. ومن غير الممكن أن يكون المقصود تمثال اللات هنا. ذلك أن تمثال اللات مشكل من صخرة واحدة ليس فيها مدر، أي طين، في حين أن «الربة» مبنية من حجر ومدر، ولها باب وسور، أي إنها مبنى محدد. وعند ابن إسحق ما يؤكد ما نذهب إليه أيضاً. فهو يخبرنا أن أبرهة الأشرم اتجه في البدء إلى الطائف قبل أن يذهب إلى مكة لهدم الكعبة: «وأحث السير والانطلاق، حتى إذا أشرف على وادي وج من الطائف، خرجت إليه ثقيف، فقالوا: أيها الملك، إنما نحن عبيدك، وليست ربتنا هذه بالتي تريد، يعنون اللات، صنمهم، وليست بالتي تحج إليها العرب، وإنما ذلك بيت قريش، الذي تجئ إليه العرب» (ابن إسحق، السيرة).
هنا يظهر، وبوضوح كبير جداً، أن الربة بيت ثقيف. فهم يقولون عن معبدهم «ربتنا»، أي بيتنا وكعبتنا، رغم أن ابن إسحق يقول شارحاً بشكل غير سليم في رأينا: «يعنون اللات، صنمهم». فهم يقولون: لا تهدم ربتنا، أي بيتنا، فليس هو مقصدك، وإنما مقصدك بيت قريش، أي ربة قريش، أي الكعبة. وهذا يفسر الخبر الذي أوردناه، والذي يقول إن ثقيف بنت ربتها من أجل مضاهاة الكعبة. 

الرجل الذي دخل الصخرة
من ناحية ثانية، الروايات العربية بغالبيتها الساحقة تقول لنا إن اللات كان في الأصل رجلاً يلتّ السويق، أي يعجن خليط القمح والشعير، ويبيعه على صخرة، فمات ودخل الصخرة بعد موته، كما رأينا في النص الذي أوردناه أعلاه: «وقالوا: بل كانت اللات في الأصل رجلاً من ثقيف. فلما مات، قال لهم عمرو بن لحي: لم يمت، ولكن دخل في الصخرة، ثم أمر بعبادتها، وأن يبنوا بنياناً يسمى اللات» (جواد علي، المفصل).
وتبعاً لهذا التقليد المركزي لدينا رجل، أي لدينا كائن مذكر، مرتبط بصخرة محددة، وعند موته دخل في الصخرة فقُدّست هذه الصخرة وعُبدت. والسؤال: كيف يمكن لإلهة مؤنثة أن تتمثل برجل، وكيف يمكن لصخرتها أن تحوي بداخلها رجلاً؟
لكن الذي أدى إلى تضليل كثيرين، ومن بينهم الدكتور جواد علي، إنما الربط بين اللات والإلهة أليلات التي ذكرها هيرودوتس كمعبودة للعرب. فقد أخبرنا الرجل في تاريخه أن العرب يعبدون إلهين اثنين، لا يعبدون سواهما: ديونيسوس، الذي يسمونه أوروتالت، وأفرودايت، التي يسمونها «أليلات». وقد درجت العادة على افتراض أن «أليلات» هي «اللات». لكن الأكثر منطقية أن نفترض أن «أليلات» هي صيغة من صيغ «ليليث» الإلهة المعروفة في المنطقة، والمذكورة كزوجة آدم الأولى في الأدب العبري.

البيروني واللات
غير أن أهم نص عربي عن طبيعة اللات جاءنا من البيروني في كتابه «الآثار الباقية من الأمم الخالية»، وفي سياق حديثة عن ديانة الصابئة الحرانية: «ويذكرون (أي الصابئة الحرانية) أن الكعبة وأصنامها كانت لهم، وعبدتها كانوا من جملتهم، وأن اللات كان باسم زحل، والعزّى باسم الزهرة» (ص 205).
وما يمكن استخراجه من النص القصير الحاسم هو ما يأتي:
أولاً: أن اللات إله مذكر، وليس مؤنثاً كما تزعم الغالبية الساحقة من دارسي ديانة العرب قبل الإسلام، غربيين وغير غربيين. فهو عند الصابئة نظير زحل ومماهيه. وزحل إله مذكر عند الجميع، وبلا جدال. كما أن زحل هو «ساتيرن» عند اليونان والرومان. وساتيرن هو «الساطرون» الشهير الملك الأسطوري في مدينة «الحضر» عند العرب قبل الإسلام. وهو إله خمري، ما يعني أن اللات خمري أيضاً. وخمرية اللات لها علاقة بعنب الطائف ونبيذها.
ثانياً: أنّ العزى عند الصابئة هي الزهرة. والزهرة إلهة مؤنثة. وهذا ما يتفق مع المصادر العربية التي تقدم لنا العزى كإلهة لا شك في أنوثتها.
ثالثاً: وبما أن اللات مذكر الثالوث، فإن تعبير «بنات الله» لا يحدد الطبيعة الجنسية لهذا الثالوث الإلهي، إذ ثمة واحد من هذا الثالوث على الأقل من طبيعة مذكرة هو اللات. وهذا يجبرنا على أن نفهم مصطلح «بنات الله» بمعنى مختلف عن المعنى السائد. فكلمة «البنات» تعني التماثيل. وهناك حديث عن عائشة أنها كانت «تلعب بالبنات» في طفولتها، أي بالتماثيل الصغار التي يلعب بها الأطفال. كما أن «البنات» أيضاً تعني: النجوم الصغار بحسب الزبيدي في قاموسه. وبالتالي، فبنات الله تعني أصنامه وتماثيله، أو نجومه، ذلك أن هذا الثالوث يمثل نجوماً سماوية في نهاية الأمر.
والحق أن هذا يتواءم من جدال القرآن ضد الصفة المؤنثة للثالوث: «أفرأيتم اللات والعزى. ومناة الثالثة الأخرى. ألكم الذكر وله الأنثى. تلك إذاً قسمة ضيزى. إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس» (النجم: 19-23). «إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان». هذا هو جوهر الفهم القرآني للاسم (بنات الله). فهذا مجرد اسم ولا يعكس حقيقة الثالوث الذي هو ملائكة الله: «وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون» (الزخرف: 19).
بناءً عليه، لم يحدثنا البيروني للأسف عن الحد الثالث في الثالوث (مناة). أما أنا فقد اقترحت في كتابي السابق الذكر أنه هو الآخر إله مذكر.
على أي حال، فقد كان لأيوب التوراة ثلاث بنات: الأولى يميمة، والثانية قصيعة، والثالثة قرن هفوك. وهناك من يظن حقاً أن هاتيك البنات آنسات يطلبن الزواج. لكن الحقيقة أنهن بنات مثل «بنات الله» المكيات، أي إنهن كائنات دينية.
كذلك كان لأيوب أصدقاء ثلاثة: أليفاز التيماني، بلدد الشوحي، و صوفر النعماني. وهؤلاء الأصدقاء هم أيضاً ثالوث مثل الثالوث المكي. لكن هذا الثالوث يتبدّى هنا كثالوث مذكر. بذا، فتذكير هذه الثواليث أو تأنيثها لفظياً لا يدل على طبيعتها الجنسية. فطبيعتها الجنسية هي أنها تتكون من ذكرين وأنثى. الحدان الطرفيان ذكران، والحد الأوسط مؤنث.

* شاعر فلسطيني