الأمر الذي لا يعرفه كثيرون أن هناك إلهاً فينيقياً باسم «إسرائيل». هذا ما أخبرنا به سنخوناثان في كتابه عن تاريخ الفينيقيين، الذي ترجمه إلى اليونانية فيلو الجبيلي. الكتاب لم يصلنا بالطبع، لكن فقرات منه وردت في كتابات الكتاب المسيحيين الفلسطينيين. وهناك على الأخص فقرة مهمة جداً من يوسيبيوس تعلمنا بوجود هذا الإله: «أما كرونوس (ساتيرن) الذي يدعوه الفينيقيون إسرائيل، والذي ألّه بعد موته، وجعل في النجم الذي يحمل اسمه، فإنه عندما كان ملكاً، كان له ابن وحيد من حورية تدعى أنوبرت، وحسب القصة فهو يدعى إيود Ieoud. من أجل هذا، ما زال الفينيقيون يسمونه بالوحيد. وحين أحاقت بأرضه مصائب الحرب، فقد زيّن المذبح، وألبس ابنه الرموز الملوكية وضحى به». (Richmond, (1876), Cory’s Ancient Fragments, Page21-22)إذن، فقد كان عند الفينيقيين إله يدعى «إسرائيل». وهذا الإله:
1- يتماهى مع الإله كرونوس.
2- ضحى بابنه «إيود» تضحية تشبه تضحية إبراهيم بابنه إسحق. وهذا الولد كان يدعى بالوحيد، بالضبط كما كان إسحق يدعى بالوحيد أيضاً، رغم أنه لم يكن الابن الوحيد لإبراهيم. فقد كان هناك ابنه الآخر إسماعيل. وهذه الواقعة، واقعة تشابه تضحية كرونوس بتضحية إبراهيم، شديدة الأهمية. فهي تؤكد أننا مع الجو الديني ذاته في قصة إبراهيم وإسحق وقصة إسرائيل- كرونوس.
الاله داجون

غير أن ما حصل أن باحثي التوراة، أو بالأحرى الباحثين الغربيين كلهم، شطبوا اسم هذا الإله من الوجود. فقد رفضوا تصديق وجود إله باسم إسرائيل، مفترضين أن وجوده خطأ من الناسخين لا غير، وأن الاسم يجب أن يكون في الأصل «إيل» وليس «إسرائيل».
أكثر من ذلك، فإن الغالبية العظمى تضع، حين تقتبس النص أعلاه، «إيل» مكان «إسرائيل» من دون أن تشير إلى ذلك أبداً، أي من دون أن تخبر القارئ أن الاسم في نسخة يوسيبيوس هو «إسرائيل». وقد أذهلني هذا تماماً حين اكتشفته. إذ لا يحق لأي كان أن يعدل النصوص التي يقتبسها على حسابه وانطلاقاً من اعتقاده. وهكذا محي اسم هذا الإله الفينيقي. وقد محي لأن وجود إله باسم «إسرائيل» يثير اضطراباً، قد يؤدي إلى تغيير الصورة السائدة للديانة اليهودية جذرياً. فبناء على وجوده، يكون بنو إسرائيل عباد هذا الإله في الأصل.
غير أن مسلة الفرعون المصري مرنفتاح (1205 ق .م) تذكرنا في آخر سطرين من نصها ذي الطابع الشعري بوجود هذا الإله الملغى في ما يبدو. فهي تخبرنا بأن مرنفتاح احتل جنوب فلسطين ودمّر هناك عدداً من المدن هي: بكنان (أو فكنان)، التي يعتقد بعضهم أنها غزة، وعسقلان وجازر ويانوعام. ثم يقول النص في السطرين الأخيرين:
Israel laid waste, his seed is not
Kharru became a widow
والسطران يترجمان عادة هكذا:
إسرائيل خرّب، نسله أبيد
خارو صارت أرملة.
أما «خارو»، فيعتقد أنها اسم لفلسطين أو إحدى مناطقها. لكن يختلف بشدة على كلمة «إسرائيل» في النص. فالغالبية السائدة تربط بينه وبين إسرائيل التوراة، بل ترى أنها هي إسرائيل التوراة ذاتها. لكن هناك من يرى أن الكلمة يجب أن تقرأ «يزرعيل»، أي أنها تشير إلى مرج ابن عامر (سهل يزراعيل). بالتالي فالنص يقول إنّ سهل مرج بن عامر دمِّر، وأبيدت حبوبه. ذلك أن الكلمة المصرية prt قد تعني الحبوب أو النسل والذرية.
وفي كتابي «عندما سحقت حية موسى: نشوء اليهودية في فلسطين في العصر الفارسي»، جادلت بأن الاسم هو «إسرائيل»، وأنه اسم الإله ذاته الذي ذكره لنا سنخوناثان عبر فيلو. أي أن النص يخبرنا أنه جرى تدمير إسرائيل ومنطقته وعبادته. في تلك الفترة، أي في نهاية العصر البرونزي وبداية العصر الحديدي، كانت الإثنيات مرتبطة بالآلهة. فما يميز إثنية عن أخرى إنما هو إلهها في الأساس. وإذا صح هذا، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف إذن يتواجد الإله «إسرائيل» في المنطقة التي تخبرنا التوراة بأنها أرض الفلسطينيين التقليدية على وجه الخصوص، أي في الساحل الفلسطيني؟ ويزيد هذا السؤال اشتعالاً أن الفلسطينيين حسب التوراة، حين استولوا على تابوت العهد وضعوه في معبد إلههم «داجون» في عسقلان وأسدود. فكيف أمكن لهؤلاء الفلسطينيين أن يضعوا رمز عدوهم في حرم إلههم المركزي؟ ألا يعني هذا أنهم كانوا يقدسون تابوت العهد بشكل ما؟ أو قل: ألا يعني هذا أن تابوت العهد ربما يكون رمزاً للإله داجون ذاته؟
وإذا كان الأمر كذلك حقاً، فإن الفلسطينيين القدماء كانوا يماهون بين الإله إسرائيل وبين الإله داجون إلههم المركزي. يقول نقش أشمونازر Ashmunezer ملك صيدا: «دور [الطنطورة] ويافا أرض داجون العظيم في سهل شارون [مرج ابن عامر]» (Fantalkin, Navigating Between the Powers: Joppa and Its Vicinity in the 1st Millennium B.C.EE )
إذن فالإله إسرائيل هو عديل الإله داجون، أو قل إنه هو داجون ذاته. وفي هذه الحال، يكون الاسم الأصلي للإله داجون هو إسرائيل، أما داجون فصفته. وكلمة داجون الكنعانية- الفينيقية- العبرية، فتعني «القمح». بذا فالإله إسرائيل إله قمحي. ذلك أن الإلهة القديمة تنقسم إلى قسمين: قمحي وخمري. عليه، فالاسم داجون يشير إلى الطابع القمحي للإله الفينيقي «إسرائيل».
بالتالي يمكن ترجمة سطري المسلة السابقين بشكل مختلف.
إسرائيل خرب، قمحه أبيد (أو: حبوبه أبيدت)
خارو صارت أرملة.
ذلك أن كلمة prt المصرية تعني كما أوضحنا أعلاه الحبوب أو النسل، أي البذور الحقيقية أو الأبناء. بذا فقد دمرت غزوة مرنفتاح إسرائيل الإله ودمرت رموزه، القمحية الحبوبية. وهذا يعني أن إسرائيل مرتبط بالقمح والحبوب مثله مثل داجون بالضبط. القمح والحبوب رمزه.
وإذا صح ما أقول، فإن الأمور سنتقلب رأساً على عقب. ذلك أن إله الفلسطينيين الملعون هو ذاته إله إسرائيل القديمة. أكثر من ذلك، فإن «إسرائيل القديمة» ذاتها، ويا للهول، قد تكون اسماً آخر للفلسطينيين القدماء. من أجل هذا تحدث هيرودتس حين زار فلسطين في القرن الخامس قبل الميلاد عن الفلسطينيين، ولم يذكر إسرائيل، أو يهودا، مطلقاً.
على كل حال، فأوزيريس المصري أيضاً يرتبط بالحبوب، وبالقمح والشعير على وجه الخصوص. يقول النص 330 من نصوص التوابيت على لسان أوزيريس:
«لأنني أحيا في القمح، وأنمو فيه،
وعليه يعيش المبجلون،
أكسو الأرض، سواء عشت أم متُّ، أنا الشعير،
لا أبيد».
(كلارك، الرمز والأسطورة في مصر القديمة، 1999، ص 141).
وكما نرى، فأوزيريس يحيا في القمح، وينمو فيه، كما أنه هو الشعير ذاته: «أنا الشعير لا أبيد». وهذه الجملة على وجه الخصوص توضح لنا معنى جملة مرنفتاح: «حبوبه أبيدت». إذ يبدو أن جملة مسلة مرنفتاح كما لو أنها لعب واع على جملة أوزيريس «أنا الشعير لا أبيد». إنها قلب لجملة أوزيريس رأساً على عقب. فأوزيريس لا يبيد قمحه ولا شعيره. أي لا يبيد كإله، ولا تبيد ديانته، ولا رموزه. أما قمح الإله إسرائيل فيبيد، وينتهي. التشابه بين الجملتين مثير حقاً، ويدعم اقتراح أن كلمة «برت» في المسلة تعني الحبوب، وعلى الأخص القمح والشعير. وإذا صح أن الأمر يتعلق بالحبوب من قمح وشعير، فهو يعني أن الإله إسرائيل شبيه لأوزيريس، كما قلنا. وهو ما يضيف قوة إلى التشابه اللفظي بين «أسر- ئيل» وبين النطق المصري لاسم أوزيريس: «وسر، وزر». أوزيريس وإسرائيل- داجون من الطبيعة ذاتها. لكن هذا لم يمنع مرنفتاح من تدمير حبوب إسرائيل، أي رموزه. ذلك أن إذلال الجماعات الأخرى مرتبط بإذلال آلهتها حتى لو كانوا من الطبيعة ذاتها.
وللاستخلاص يمكن قول ما يلي:
أولاً: إن هناك إلهاً فينيقياً يدعى إسرائيل.
ثانياً: أن المركز الرئيس لهذا الإله كان في جنوب فلسطين. ذلك أن يافا والطنطورة كانت أرض داجون العظيم.
ثالثاً: أن الإله إسرائيل هو ذاته الإله داجون الكنعاني- الفينيقي. يؤيد هذا وجود داجون في مناطق ربطت في التوراة بإسرائيل القديمة. فهناك قرية «بيت دجن» قرب نابلس، و«بيت دجن» قرب يافا.
رابعاً: أن هذا الإله كان يعبد من قبل إسرائيل القديمة- إسرائيل لا يهوذا- ومن قبل الفلسطينيين. وهو ما يجعل العلاقة بين الفلسطينيين وإسرائيل القديمة مطروحة للنقاش. فهل كان الفلسطينيون هم إسرائيل القديمة حقاً؟
والنقطة الأخيرة على وجه الخصوص هي النقطة الأشد تفجيراً في الأمر كله.
وهي بحاجة إلى استقصاء.
* شاعر فلسطيني