هل ثبتت في يوم من الأيام صحة نظرية المركز والأطراف في الأدب والفن والثقافة؟ هل قدم المستَعمِر إلى بلادنا وإلى الأصقاع الأخرى في أميركا الجنوبية وأفريقيا وجزر أوقيانيا والمحيطات، حاملاً إليها الأنوار مع السيوف، والحرف والنغم واللون مقابل ذهبها ونفطها وثرواتها؟ كيف قابلت ثقافات الشعوب المستعمَرة الرجل الأبيض؟ وهل بادلت تشكيكه بإنسانيتها حقداً مضاداً ونزعة ثأرية مدمّرة؟ هل يقبل الرجل الأبيض بـ«مجال أوسع للرؤية» وبالنظر إلى الأمور من زاوية مختلفة لما يظنه الأجمل والأفضل في الحياة والفن والأدب؟ أسئلة كثيرة سيجيب عليها النيجيري تشينوا اتشيبي (١٩٣٠ـ٢٠١٣) الذي يعتبر أحد أهم الكتّاب في القرن العشرين، قال عنه نيلسون مانديلا إن «مخالطة كتاباته تسقط جدران السجن». رواية اتشيبي الأولى «أشياء تتداعى» ترجمت إلى أكثر من 50 لغة وتم الاحتفاء بها في العالم أجمع. في كتابه الأخير «تربية الطفل المكلل بالتاج» («آكت سود» الفرنسية ـ ٢٠١٣)، يجمع اتشيبي ما يشبه المانيفستو من الأقاصيص، والحكايات والمقالات النقدية التي تشكل نصوصاً ممتلئة بالذكاء الحاد والفكاهة تخلط التأملات الفردية بالقضايا السياسية والاقتصادية. يضع اتشيبي قصته الشخصية وتاريخ نيجيريا والقارة السمراء بأسرها ليجيبنا على الأسئلة الصعبة، ويدعو لبناء عالم جديد متنوع ومتنور، يكون فيه للشعوب المستقبل ذاته، وإن لم تتقاسم الماضي القريب والبعيد، وليكون الأدب احتفالاً بكل ما هو إنساني.
منذ سنوات، كنت من بين عصبة صغيرة من المدعوين من قبل هيئة الفن الإيرلندي للاحتفال بألفية مدينة دبلن. كانت التظاهرة تحمل عنوان «الأدب كاحتفالية». العنوان سبّب مشكلة لبعض الزملاء، أمّا أنا، فقد ناسبني تماماً: لقد لخّص بكلمتين حقيقة بخصوص الفن تتداخل بانسجام تام مع إرثي التقليدي. كما إنه يتلاءم بشدة مع ذوقي الشخصي في هذا المضمار. صبيحة مداخلتي، نشرت صحيفة «آيريش تايمز» مقالة مهمة سمّاني كاتبها المحب بـ «الرَجل الذي اخترع الأدب الأفريقي». استفدتُ من التظاهرة الشعبية التي وفَّرَها الاحتفال كي أنفي نفياً قاطعاً هذا الزعم. اليوم، وقبل أن يظن أحدكم أن هذا النفي لم يكن إلا تواضعاً من قِبَلي، أعلِنُ أمام الملأ أني لست متواضعاً البتة. كلا، إن نفيي هو انحناءة غريزية أمام نوع من التابو الخاص بأسلافي، الذين يمنعهم ـ مخافة أن تحيلهم الآلهة مباشرة إلى العدم ـ من أن ينسب أحدهم لنفسه ولو جزءاً ضئيلاً من تراث جماعي، أطلق عليه شعب الإيبو الذي أتحدر منه في نيجيريا اسم «مباري». تقليد «مباري» كان احتفالية عبر الفن، بالعالم ومن يسكنه. المشاركون كانوا أعضاء من الجماعة ممن يتعبدون لإلهة هذه الجماعة، المسماة بآنا أو «آلا»، أي إلهة الأرض. كانت «آلا» تلعب دورين رائعين في مجمع آلهة الإيبو، أوّلهما أنها منبع الخَلق فوق الأرض، وثانيهما أنها الحارسة للنظام الأخلاقي في الحياة الإنسانية. من وقت لآخر، وبكثير من السرية، كانت هذه الإلهة تطلب من الجماعة عن طريق النبوءة، أن يبنوا على شَرفِها بيتاً من الصُوَر. كان الكاهن يجوب القرية ليطرق على أبواب من اختارتهم «آلا» لخدمتها. بسرعة، يصبح هؤلاء المصطفَون مباركين وينعزلون عن بقية الجماعة، ثم ينطلقون نحو الغابة. وتحت الحراسة الشديدة والإشراف المباشر لأفضل الحرفيين والفنانين، يشرعون في بناء معبد للفن. من الناحية الهندسية، كان البناء بسيطاً: مسرح مؤلف من جدران ثلاثة كبيرة، تحمل سقفاً مدبّباً. بدل الأرضية، كانت هناك درجات تنطلق من الجدار الجانبي لترتفع حتى تحاذي السقف متكئة على الجدار الخلفي. الأوديتوريوم كان ممتلئاً حتى السقف بالتماثيل المصنوعة من الآجر، والجدران مكسوة بلوحات من ألوان بيضاء وسوداء وصفراء وخضراء. في الصف الأول وعند منتصفه تماماً، كانت تقف الإلهة نفسها، حاملة طفلاً على فخذها الأيسر وسيفاً في يمناها. أنصاب أخرى كانت تمثل شخصيات بشرية، وحيوانات، وشخصيات من الفولكلور والتاريخ، مشاهد من الغابة، مشاهد من القرية والحياة العائلية، وقائع حياتية يومية، أو فضائح مدوية، شذرات من احتفالية «مباري» سابقة، وأشياء تعرض للمرة الأولى... كل ذلك يتزاحم ليجد مكانه كاستجابة لما يستدعي كل الخبرة والخيال للنوع الإنساني. عندما ينتهي العمل، وبعد أشهر وأحياناً سنوات من التحضير، يقوم أولئك المنذورون للاحتفالية ممن اعتزلوا الناس بدعوة القرية بأكملها، ويتم اختيار يوم لتقديم طقس «مباري» الاحتفالي مصحوباً بالرقص والموسيقى والولائم. المشكلة التي طرَحَتها كلمة «احتفالية» للزملاء في ألفية دبلن أظنّها انبثقت من خلل في الرؤية. بالنسبة لي، طقس «مباري» كان يوسع الرؤية ويفتحها على معانٍ تتخطى تذكّر لحظات الفرح البسيطة وبعض الأحداث المبهجة. كانت الاحتفالية تتعمد أن تضم خبرات أخرى، أي كل ما يلاقيه الإنسان من محطات مشبعة بالمعاني أثناء سفره عبر الوجود، وبالأخص منها تلك التي تحمل جديداً، وبالتالي تحمل خطراً محتملاً. وهكذا، مثلاً، حين ظهرت أوروبا وسط شعب الإيبو عبر الحكايات التي كان يرويها المسافرون عن الشخصية الحقيقية والمقلقة لضابط المقاطعة الأبيض، كان فنانو «مباري» يحجزون لهذا الأخير محلّه وسط تماثيل الآجر، دون أن ينسوا الغليون وخوذته المسنّنة. كانوا يتركون أحياناً مكاناً لحصانه الحديدي، أو حتى لدراجته. في عقلية الإيبو، يجب على الفن، في واحدة من وظائفه، أن يروّض كل ما هو متوحش، أن يتصرف ككابح الصواعق حين يشكل سداً أمام القوة المدمرة للكهرباء فيسوقها نحو الأرض ويمنعها من الأذى. يؤمن الإيبو بقوة أن كل قوة نجهلها، نكتمها، نرفض أن نعترف أو نحتفي بها تصبح مصدراً للقلق والتشتت. بالنسبة لهم، الاحتفاء هو الاعتراف، لا الاستضافة، بوجود أو كينونة ما. إنه نوع من اللباقة التي تعطي كل ذي حق حقّه. وهكذا، لم تكن احتفالية «مباري» نوعاً من الإعجاب الأعمى بعالم مثالي أو عادل. كانت اعترافاً بالعالم كما يراه فعلياً سكّانه، في أحلامهم وتخيلاتهم. لم يكن ضابط المقاطعة الأبيض مدعاة للضحك أو الرقص. لكنه كان وحيداً في ذاته، مثل أي ذات أخرى تثير القلق: مثل رجل مغطى من الرأس حتى أخمص القدم ببثور الجدري، المرض الذي كان يثير التوجس ويتم التهامس بكونه «يزيّن ضحاياه». أقترحُ عليكم طقس «مباري» هذا كنموذج لفنّ ما قبل الاستعمار، للفن كاحتفاء بالواقع، للفن في بعده الاجتماعي، للاحتمال الإبداعي في كل منا ولحاجته بأن يمارِس دون انقطاع هذه الطاقة الكامنة فيه بالتعبير الفني وفي تظاهرات جماعية وتشاركية.
أقترحُ عليكم طقس «مباري» هذا كنموذج لفنّ ما قبل الاستعمار، للفن كاحتفاء بالواقع، للفن في بعده الاجتماعي


الآن يمكنني أن أحدثكم قليلاً عن إرثي الاستعماري. ولأن الحديث عن الاستعمار معقد نوعاً ما، هناك أمر واحد مؤكد: لا يمكننا مصادرة أرض إنسان ما، أو شخصيته، أو تاريخه ثم الجلوس لتأليف وتلحين أناشيد باسمه. من يتصرف كذلك هو مثل قاطع الطريق الذي يستحق أن نسميه باسمه دون مواربة، ما العمل إذن؟ نخترع عندها أعذاراً معقدة لتبرير أفعالنا. نقول مثلاً إن الإنسان الذي استعبدناه لا يساوي شيئاً وأنه غير قادر على إدارة نفسه بنفسه، أو إدارة شؤون بلده. إذا كنتم منشغلين بأشياء ثمينة تسلبونها من أرضه، مثل الذهب والماس، تنهمكون بإثبات أنه لا يمتلك هذه الثروات بالفعل، وأنه صودف وجوده وإياها في المكان ذاته حين وصلتم إليها. وأسوأ من هذا كله، تتجرأون حتى على سؤال أنفسكم إذا كان هذا الشخص هو حقاً، مثلكم، من صنف البشر. ليس هناك إلا برزخ واهن بين رفض الاعتراف بإنسان ما يعيش فوق أرضه وبين وضع إنسانيته موضع التشكيك. مِن هنا، لم يكن برنامج المستَعمِر ليقيم شيئاً من الاحتفالية بعالم المستَعمر، على العكس تماماً من الاحتفالية الإشكالية والإيجابية التي كانت تقابل بها أفريقيا وجود الرجل الأبيض في طقس «مباري». لقد استخدمتُ لمرات عدة كلمة «وجود». وأؤكد هنا، أنه في القضية الاستعمارية، الوجود كان هو المسألة الحساسة، الكلمةـ الرمز. من زمن العبيد وحتى اليوم، مروراً بمرحلة الاستعمار، يمكننا إعداد قائمة طويلة وكاتالوغ غني بما قد تم قوله حول الأفارقة، وما لا يملكونه، وما لا يكونونه. لقد طرح رجال الكنيسة في لحظة ما السؤال حول الروح ذاتها. هل يمتلك الأسوَد روحاً؟ أشياء أقل أهمية مثل الثقافة والدين كانت خارج أفريقيا مثاراً لنقاشات عدة كانت دائماً ما تنتهي بصورة سلبية. التاريخ الأفريقي لم يكن متخيلاً، باستثناء مناطق محدودة مثل الحبشة، حيث يحدثنا «جيبون» عن فائض من الحركة مصحوباً ابتداء من القرن السابع بألفية سقط فيها هذا البلد في سبات عميق «جعله ينسى العالم الذي نسيَه بدوره». أريد الآن أن أؤكد الفكرة التي انطلقت منها. الاحتفالية لا تعني المديح أو الموافقة، يمكنها أن تحتمل شيئاً من هذا القبيل، ولكن جزئياً. يكفي أن نتعرف على الأدب الأفريقي المعاصر لكي نعرف ميزتنا الأساسية: نحن لسنا من النوع الذي يتملق الحاكم. المعركة التي تدور في أفريقيا اليوم بين الحاكم والشاعر ليست وليدة الأمس. شعراؤنا من الأسلاف المنشِدين، كانت لهم طريقتهم في التعامل مع هذه الإشكالية، بطرق مستقيمة وأحياناً ملتوية. أُنهي بنسخة قد عدَّلتها قليلاً لأقصوصة من شهب الهاووسا في نيجيريا: رائعة مختصرة، قصة سيف ذي حدَّين: «امتطت الأفعى فخذ الحصان، بطريقتها التقليدية في الالتفاف على نفسها، وحين التقت بضفدع في الطريق، قال الأخير:
ـ معذرة سيدتي، ولكن هذه ليست بالطريقة المثلى لامتطاء صهوة الجواد.
-ـ هلا أريتني الطريقة المثالية من فضلك، ردت الأفعى.
نزلت الأفعى وتسلق الضفدع السرج، ليجلس بوضعية متزنة ويصول بالحصان ذهاباً وإياباً.
-ـ هكذا نمتطي جواداً، قال الضفدع.
- حسنا، انزل من فضلك، أجابت الأفعى.
قفز الضفدع نحو الأرض وصعدت الأفعى على فخذ الجواد ملتفّة على نفسها كما فعلت تماماً في المرة الأولى، ثم التفتت للضفدع الزاحف على الطريق وقالت:
- إنه لمن الحسن أن نعرف ما هو جيد، لكن أن يكون بمتناول يدنا فهذا أحسن. ماذا ينفع الإنسان أن يكون فارساً حاذقاً إذا لم يمتلك جواداً؟
كل من يقرأ هذه القصة البسيطة يمكنه أن يستنتج كيف تسهم القصص في المحافظة على الستاتيكو في مجتمع طبقي. الأفعى تمثل شخصاً يمتلك أحصنة، لكونه أرستقراطياً لا لكونه فارساً، والضفدع يمثل ذلك الفارس الموهوب الذي بعد سنوات من الجهد والكفاح لن يحظى بشرف امتلاك حصان. الهاووسا الذين ألفوا القصة يتحدرون من ثقافة مَلَكية، والعبرة التي نطقتها الأفعى تعبر بأمانة عن العلاقات التي تحكم نظامهم السياسي. لكن الشاعر الذي اخترع في زمن سحيق هذه التحفة الأدبية خبأ ضربة سيف معاكسة في قلب الأقصوصة المرِحة. مع الوقت، القصة ذاتها تفصلها عن طابعها الهجومي في انتقاد ارستقراطية فاسدة وغير كفوءة لن تستثير الضحكات المتسامحة وإنما النقد القاسي.
الأدب الأفريقي القديم كما الجديد يعي تماماً الفرصة المتوفرة له للاحتفاء بالإنساني في عالمنا هذا. هو يعرف تمام المعرفة أن أفُقَنا المعاصر ينفتح أكثر فأكثر على الآفاق الأخرى. تقول إحدى شخصيات الكاتب النيجيري الفذ شيخ حميدو كان للمستعمر الفرنسي في رائعته «المغامرة الغامضة» (١٩٦١): «ليس لنا الماضي ذاته، نحن وأنتم، لكن سيكون لنا بالتأكيد نفس المستقبل. زمن المصائر الأحادية قد انقضى». إن تعلَّمنا أن نعترف بوجود الآخر وكنا مستعدين لإبداء القدر اللازم من الاحترام الإنساني للجميع، فإن مآل هذه القصص الإنسانية المتفرقة سيأخذ شكل لقاءات غنية ومتناغمة، وإلا سيكون العالم مرتعاً للفوضى والمرارة.

* المرجع: شينوا اتشيبي ـــ «تربية الطفل المحمي بالتاج» ــ «منشورات آكت سود»، ٢٠١٣