رتل طويل لأشهر الكتّاب في العالم، وهم يقفون أمام دور النشر الكبرى، في انتظار مصير مخطوطاتهم، كما لو أنهم مهاجرون ينتظرون تأشيرة الدخول. لكن 50 كاتباً ممن شكّلت كتبهم ذائقة ملايين القرّاء في العالم، خلال القرون الماضية، سيجدون أنفسهم على القائمة السوداء، وفقاً لذائقة محرّري دور النشر اليوم، هؤلاء الذين يقررون بوصلة القراءة. هذا ما يفترضه الصحافي الإيطالي ريكاردو بوزي في كتابه «عزيزي الكاتب: رسائل الرفض من دور النشر للأعمال العظيمة» (2016) الذي انتقل أخيراً إلى المكتبة العربية (دار نينوى، ترجمة محمد ناصر الدين). الكتاب رسالة هجاء مضادة لتوجهات دور النشر اليوم، بعدما أضحى الكتاب بالنسبة إلى معظم دور النشر سلعة لا يمكن تسويقها إلا بعد توضيبها وتغليفها على نحوٍ يجذب قارئ اليوم إلى وليمة مسليّة لا تصيبه بعسر الهضم، ولا تربك دماغه بأسئلة صعبة، كالتي يقترحها الكتّاب في نصوصهم الأصلية. وبناء على هذه الفكرة الفانتازية، يضع ريكاردو بوزي هؤلاء الكتّاب في الموقد الجحيمي لمحرّري دور النشر، في مواجهة ساخرة تتلاءم مع ما تتطلبه مطحنة العولمة، بصرف النظر عن نوع الطحين الأصلي. هكذا يتلقّى سرفانتس رسالة رفض صريحة لتحفته الخالدة «دون كيخوته»، مرفقة بمقترح يستسيغه قارئ اليوم «عمل طويل جداً، لا ينتهي. هل تحدّد مجرياته في إسبانيا؟ فليكن في الغرب الأميركي مثلاً، حيث المغامرات، أو على الحدود، أنّى شئت، ولكن ليس في إسبانيا. ليس فقط لأن الأمور ستكون مشوّقة أكثر في الغرب». وسينال شكسبير حصته من الهجاء عن مسرحيته «هاملت»: «سأتحامل على نفسي من أجل أن أكون دقيقاً قدر المستطاع: أن نكون. الموضوع بالنسبة إلينا غير قابل للنقاش».هكذا تتحكم دور النشر العالمية الكبرى بتوجهات الكتابة الراهنة، بتسويق نمط من الأفكار على حساب سواها، فالكتاب بالنسبة إلى معظم هذه الدور مجرد سلعة ينبغي إخضاعها لمتطلبات السوق بصرف النظر عن أي فكرة مبتكرة. فالمهم إدخال الكتاب إلى المطحنة، وليس مهماً نوع الخبز، طالما أن فرن التوزيع يعمل بأقصى طاقته. وإذا كان هذا مصير سرفانتس، وشكسبير، فإن غابرييل غارسيا ماركيز سيصاب بصدمة أكبر وهو يتسلم رسالة الرفض التي تخص عمله «مائة عام من العزلة»: «غابو: لو حذفتَ كل هذه الأشياء الغرائبية، الخارقة للطبيعة، التي تصل إلى حدود الصوفية، سيكون كتابك عظيماً. مسألة صغيرة أضيفُها، أخشى ألا يبقى كِتابُ بعد هذا الحذف». هذا المنهج التدميري للأعمال العظيمة، سيطال عباقرة آخرين باستعمال المسطرة نفسها في وضع المقاييس الناجحة لكتبهم، في حال أنصتوا للنصائح. في الرسالة الموجهة إلى مارسيل بروست حول «البحث عن الزمن المفقود»، يشكو المحرّر من الضجر الذي أصابه أثناء قراءة الكتاب الذي بدا كأنه «خليط من الأفيون وحبوب الهلوسة وتلك القذارات التي يتم التداول بها في مصاعد البنايات». ثم يحذّره بقوله: «غير أننا دار للنشر، مارسيل، ولسنا مختبراً للصيدلة». أما المديح الذي سيجده تولستوي في مطلع رسالة الرفض لملحمته «الحرب والسلم»، فلن يستمر إلى نهاية سطور الرسالة، إذ سينقلب المحرّر عليه فجأة، كما لو أنه بائع خردة «فذ، جذّاب، عظيم ومذهل (بدأت أفكّر بالأرقام، نسخة الجيب سعرها قد يكون ٦.٩٩ يورو أو حتى ٥.٩٩ لو عثرنا على تعرفة مخفّضة في المطبعة). شيء واحد فقط. أعرف أنك من روسيا وأنت بغاية الشغف ببلادك وتاريخك (أنا أيضاً: في المرة القادمة سأرافقك إلى مطعم في سان جيرمان يقدم أفضل المقبلات بالكافيار في باريس)، ولكن ما رأيك باستبدال حملة روسيا ونابليون في الكتاب بشيء أكثر شعبية؟ شيء يمكن أن يثير اهتمام ماكينة السينما العملاقة. لا أعرف، شيء من قبيل حرب الاستقلال. بأي حال، شيء يحصل بالضرورة في الولايات المتحدة.
تتحكم دور النشر العالمية الكبرى بتوجهات الكتابة الراهنة

أرض الحلم والحرية، حيث المنتجون المحشوون بالعملة الخضراء سيتقاتلون لأجل فيلم يتناول عملك العظيم. فلتكن رؤيتك أوسع دائماً، عزيزي ليون. هوليوود، لا موسكوفا». ولن تسلم «إلياذة» هوميروس من وقع ضربات بلطة الناشر: «ليتك تسدي لي خدمة. ادخل إلى أي متجر لبيع الكتب، واقعياً كان أم افتراضياً، وتوجه إلى جناح السياسة. ستجد كمّاً هائلاً من الكتب تتناول الحروب التي تمزق الشرق الأوسط. لن تعوزك الفطنة لتلتفت إلى أن هذه الكتب توثّق بأفضل المستندات وبدقة عظيمة لهذه النزاعات الصعبة، ولكن ليس بوساطة قصيدة ملحمية، لا بد من وجود سبب لهذا الأمر. وبينما أنت في المكتبة، يمكنك أيضاً زيارة جناح الكتب العلمية والبحث عن كتاب لكبح الغضب. سيكون بالتأكيد مفيداً لبطلك أخيل. أظن أن عليه أيضاً خفض جرعات المخدر، نظراً للطريقة المشينة التي يعامل بها هكتور، والحنان المفرط الذي يقابل به بريام، وهو والد هكتور ذاته. كل هذا بتأثير الكوكايين». ولكن ماذا يفعل دانتي في «الكوميديا الإلهية» وسط هذا الزحام؟ ستكون بانتظاره نصيحة ذهبية «كان الكاتب الكبير دان براون قد حقّق منه ثروة وفتوحات عظيمة» بإلغاء مقطع الجحيم، والإبقاء على المطهر والفردوس. مع كافكا تبدأ المشكلة من عنوان كتابه «التحوّل» الذي سيغضب الرفاق في موقع «أمازون»، ويقترح عنواناً آخر هو «كيف تحوّلت الدابة الفظيعة غريغور سامسا إلى فراشة جميلة». وسوف ينصح دستويفسكي بقراءة كتب الألغاز، فربما يتحوّل بالمثابرة إلى أغاثا كريستي ضحلة. في حال فكّرنا بنسخة عربية موازية من هذا الكتاب، سنجد رسائل رفض محدودة، فأغلب ما ينجزه كتّاب اليوم، يعمل بهدي نصائح دور النشر، ومتطلبات الجوائز المغرية!