يأخذنا الشاعر والروائي الإيطالي لويجي بيراندِلُّلو (1867 – 1936) في روايته «واحدٌ، ولا أحد ومائة ألف» (1926) التي انتقلت أخيراً إلى المكتبة العربية عن «منشورات المتوسط» (ترجمها عن الايطالية أمارجي) إلى رحلة ساخرة مؤلمة وثورية. يتحدث صاحب «نوبل» (1934) عن الصورة التي يصنعها الآخرون لنا، ثم محاولتنا الانقلاب على تلك الصورة التي لا تشبهنا، وما ينطوي على ذلك من إثارة وغرابة وتعاطف. تعتبر رواية بيراندِلُّلو روايةً موضوعها النفس الإنسانية، إلا أنّ الكاتب لا يعيدنا إلى موضوعهِ، عبر التفاعلات مع الأشياء والناس والأحداث، وإنّما يجد القارئ نفسه إزاء ثورة داخلية يعيشها موسكاردا، بطل الرواية، تخرج في صورة هازئة مريرة ومدمرة. الرواية التي أمضى بيراندِلُّلو في كتابتها 15عاماً، تمثل خلاصة تجربته الإبداعية في الشعر والقصة والمسرح، وقد اعتبرها أشبه بوصيّته الفكريّة والأدبيّة. يبني بيراندِلّلو عالمه الذهني العاصف والقلق محتكماً إلى فداحة سوء الفهم. إذ إنّ الكلمات بذاتها خاوية وكلّ يملأها بالمعنى الذي يراه. بالتالي، يبحث موسكاردا عن حقيقته الموزعة بين ما يمنحه لنفسهِ وبين ما يمليه عليه الآخرون، لتصير حقيقة غير مؤكدة. وفي غمرة السعي لإدراك ما لا يدرك، تزخر الرواية بمواقف مسرحية، تمثلها خلاصتها؛ إذ حتى يرى الإنسان نفسهُ، ينبغي له أن يموت!

بينما ينظر موسكاردا داخل أنفهِ تصارحه زوجته بأنّ أنفهُ مائلٌ نحو اليمين، يُفاجأ من اكتشافها. ويبدأ تأمل عيوبهِ بألم ومهانة؛ يدرك أنّه شاب في الثامنة والعشرين ولا يعرف جسده معرفة جيدة. من هذا الاكتشاف الأشبه بالنكتة، تبدأ آلام موسكاردا، ومعها رحلة يعرف أنّها ستقوده إما إلى الجنون أو إلى الموت. طوال حياته، يعتقد أنّ الآخرين يعتبرون أنفه مستقيماً، لكن ما أن رفعت زوجته الحجاب عن عيوبهِ حتى شعر بسخط وذهول. الجميع كان يسخر منهُ طوال الوقت. لقد كان بالنسبة لهؤلاء شخصاً غير موسكاردا الذي هو بالنسبة لنفسهِ. هكذا راحت فكرة أنّه لم يكن في نظر الآخرين مثلما كان في دخيلة نفسهِ تتعزز لديه، وتمتدّ لتشمل الجوانب النفسية في شخصيتهِ، والمواقف التي لطالما يأخذها المرء، وفي حالته، المواقف التي لم يكن يأخذها، إذ إنّه فشل في تحقيق أي شيء. هو وريث صاحب مصرف، يعيش من حسابات والدهِ المتوفى وممتلكاتهِ. تتنازعه رغبة في البقاء وحيداً، أن يعيش في غياب نفسهِ التي لطالما اعتقد أنّه يعرفها. إذا صدف مرآة يجفل من رؤية ذلك الواحد الذي ينتحل وجودهُ، وعندما فكر بالطريقة التي ينظر إليه الناس فيها، وقع على اكتشاف محبط. إنّه يختلف باختلاف من ينظر إليه، إنّه ليس واحداً بل مئة ألف يحملون الاسم ذاتهُ. ينضج المأزق الوجودي لموسكاردا عند هذا الحد، ثم يبدأ تداعيه عبر مجموعة من التصرفات غير المفهومة بالنسبة لسواه، وقد شرعَ في استعادة ذاتهِ عبر تحطيم صورتها في أذهان الذين عرفوه؛ بدءاً من زوجته التي تراه مغفلاً، إلى الناس الذين يرونه مجرد مرابٍ ورث هذه الصورة عن والدهِ.
يُحذِّر بيراندلّلو من الوقوع في فخ الشكل، ينحت مصطلحاً يدعوه «شقاء الشكل». وروايته تمثّل دعوة إلى تجنب هذا الشقاء. في «واحدٌ، ولا أحد ومائة ألف»، يقود حال الأشكال إلى حال الأفعال. لذلك يندفع موسكاردا ويطبق تجربته الأولى في الهدم الذاتي على مستأجرين لأحد منازله.
تمثل الرواية خلاصة تجربته الإبداعية في الشعر والقصة والمسرح

يمضي إلى محرر العقود، ويفكر بأن يمدّ له لسانه عندما يراه، يرسله المحرر إلى المصرف لإحضار وثائق ضرورية لإتمام المكيدة التي يحضرها موسكاردا للجميع. يسطو على المصرف خاصته، يتشاجر مع مدراء أعمالهِ، يتهمونه بالجنون، يسرق الأوراق المطلوبة، ويعود إلى المحرر، ثم يتوجه إلى المستأجرين ويطردهم تحت الأمطار، معرضاً حياته للخطر في وجه موجات الغضب، قبل أن يعرف المتجمهرون أنّ موسكاردا وهب منزلاً آخر للمستأجرين. يتهمونه بالجنون، ويظفر بقدرته على تحطيم صورتهِ في أذهان الجميع. ثُمّ يواصل معركتهُ؛ يعزم على بيع حصته في المصرف بعد جدال مع مدير أعمالهِ، أراد أن يثبت عبره، أنّه غير غافلٍ عن أموالهِ، وإنّما يوزن المعاملات المصرفية بميزان الضمائر. وهو يتحرر من الأوهام التي نُسجِتْ حولهُ، يَهدِم الأشياء التي تُشيّد عالمه. راح موسكاردا ينفي وجودهُ ويلغيه عبر إلغاء مصالح الآخرين المشتركة معه. في لحظات العنف التي مارسها ضد زوجتهِ، شعر أنّه يرتدُّ واحداً، ثم يعيد تفريخ موسكاردات كثيرة، من أجل أن يدفع عن نفسهِ صفة الغباء. وفي داخلهِ ذعر أصيل من «سجن الشكل». يتآمر عليه مدراء أعمالهِ وزوجته وأولئك الذين ساعدهم ليثبتوا أنّه «فاسد عقل». يجد نفسه بين منح أمواله إلى الكنيسة أو الركون إلى إدارة الآخرين لشؤونهِ ضمن حبكة بوليسية تُخرِج النص من إسهاب أصاب فكرة بيراندلّلو العبقرية.
يخرج موسكاردا من مأزقه الوجودي عبر نكران الذات بعد ارتداد تجربة هدمها عليهِ. يعيش مثل متسول في مأوى المتسولين أنشأه، يتجنب المرايا، وما عاد يشعر بعيشهِ داخل كينونته، وإنّما خارجها؛ يموت ويولد ويتجدد، حياً ومكتملاً وناصعاً.