بداية، وتفادياً لأي سوء فهم أو سوء تأويل من طرف كارهي المرأة، إياهم، الذين يعدونها عورة وجب إخفاؤها وهم بالتالي يوجهون شتيمة للرجال ولأنفسهم، إذ يجردون الرجل من العقل والفطنة ويحوّلونه ليس فقط إلى حيوان وإنما أيضاً إلى حيوان شهواني شبق لا يفكر إلا بالجنس والجماع، وأن ظهور أي طرف من جسد المرأة سيدفعه إلى الاعتداء عليها، وأن المرأة ليست بشراً بعقل وإنما جسد لا أكثر، نؤكد ما يلي: عدد قليل جداً من النساء يرتكب جريمة الاغتصاب في الحروب، وعدد قليل جداً من النساء يصدر أوامر بارتكاب عنف جنسي (sexual) ضد النساء والرجال، وعدد قليل جداً من النساء يؤدي دوراً في صياغة خطط حربية دولية بصبغة ارتكاب جرائم اغتصاب نساء أخريات، وعدد قليل جداً من النساء يغتصب نساء أخريات في أثناء إشرافه على السجون وعلى معسكرات اللاجئين وفي أثناء مشاركته في الأعمال العسكرية أو في الشرطة العسكرية أو في أثناء مشاركته في التمردات والعصيان المدني. وعدد قليل جداً من النساء يؤيد استراتيجية إخصاب بالقوة كونها أسلوباً للتطهير العرقي. وعدد قليل جداً من النساء يجبر نساء أخريات على الإجهاض الطوعي أو الإجباري في أثناء التعذيب. هذا ما قالته لورا سجوربيرغ في مطلع كتابها الطليعي «النساء المُغتَصِبات في الحروب: ما هو أبعد من الإثارة والنمطية» (منشورات جامعة نيويورك ـ 2016). وأضافت أنه من الصعب الكتابة عن العدد القليل جداً من هؤلاء النسوة، ولأنهن خفيات في معظم الأحيان، لكن عندما يظهرن إلى العلن تتحول الأخبار عنهن إلى قصص مُهَيَّجَة ومُهَيِّجَة أو مثيرة.
الحقيقة أن القصص والروايات عن حوادث العنف الجنسي أثناء الحروب التي تذكر النساء، قليلة للغاية ومتباعدة، وقصد أغلبها الإثارة ليس غير.
المؤلفة، هي أستاذة مساعدة في مادة العلوم السياسية في «جامعة فلوريدا»، وصاحبة مؤلفات عديدة ذات صلة بالموضوع من بينها «ما هو أبعد من الأم والوحش الكاسر والبغي» وهو عنوان ذو صلة بمادة هذا المؤلف كما سنلاحظ لاحقاً.
لقد نُشر الكثير عن فظائع ــ حقيقية كانت أو متخلية ـــ ارتكبتها ألمانيات في معسكرات الاعتقال النازية، وأضحت طاغية في هذا الموضوع مع أننا في حاجة إلى التعامل معها على نحو هادئ وعلمي، بعيداً من الإثارة الصحافية والسياسية والفكرية. لكن القصص والروايات قادت إلى تسيّد الساحة مجموعة من الأوهام والمغالطات والأفكار الخاطئة وجب دحضها والانتقال إلى الحديث في الموضوع. من تلك الأوهام تذكر الكاتبة النقاط الآتية:
- المصطلح «امرأة» يمكن تبيانه على نحو سهل، ومن الممكن تأكيد من الشخص الذي يقع داخله ومن يقع خارجه.
- ولأنه من السهل تعريف المصطلح «امرأة»، فإن النساء اللواتي يقعن ضمنه، يتشاركن في أمور عديدة أبعد من مجرد كونهن يقعن ضمنه.
- النساء أكثر سلمية من الرجال، وهن لا يرتكبن عنفاً سياسياً أو جنسياً.
لنتعامل مع هذا الجانب الأخير بتفصيل مختصر للغاية ومفيد. تذكر الكاتبة قصصاً من التراث الأوروبي هي «الحروب البلوبونيسية» الإغريقية القديمة التي تعد من جوهر الموروث الحضاري الأوروبي الغربي. تقول الكاتبة إنّ تلك القصة فريدة لكن دور النساء فيها أبعد ما يكون عن الفرادة حيث الروايات عن الحروب، منذ البدايات إلى عهد الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش تُصوّر المرأة على أنها من ضحايا الحرب المسالمات بالفطرة، وأن الرجال يخوضون الحرب لحماية النساء اللواتي لا يعرفن الحروب وأسبابها. تقول الكاتبة: «هنا تأتي مسألة الجندرة حيث تتم محاولة وضع النساء في حُفر معدّة مسبقاً، وبناء على ذلك يكون المرء معداً لتقبل التقسيم الجندري». هنا نضيف أنّنا نعلم سيادة المفاهيم الجندرية حيث تسود في لغتنا العربية مصطلحات مثل «الجنس الناعم» وما إلى ذلك؛ بل إننا نجد أن بعض البرامج التلفزيونية تتخفى وراء عناوين مثل «كلام نواعم» وما إلى ذلك من المصطلحات السمجة التي تسهم في تثبيت مفاهيم نمطية مغلوطة عن المرأة بما يسهم في إعاقة مساواتها في الحقوق مع الرجل.
تتهم الكاتبة بعض النسويات (feminists) والحركات النسوية الداعية لتحرير المرأة ومساواتها في الحقوق مع الرجل بالمساهمة في تعميم صورة كهذه عن المرأة عبر الحديث عن أن المرأة سلمية بطبيعتها. توضح الكاتبة أنّ الأفراد الذين يدّعون أن المرأة أكثر سلمية من الرجل يعيدون الأمر إلى عوامل مختلفة، منها طبيعة المرأة كونها أضعف جسدياً من الرجل، وبالتالي أقل مقدرة على الدفاع عن نفسها، ويجعلها بالتالي أكثر التزاماً بأجندات سياسية وبالسلام. وانطلاقاً من منظور الضعف الجسدي، فإن هذا الرأي يضفي صفة أخرى على المرأة هي الطهارة، فتترك مهمة ممارسة العنف للرجال.
من الآراء الأخرى عن ادعاء صفة ملازمة للمرأة هي أمومتها، وأن علاقتها بأطفالها ومعايشتها هشاشتهم وحساسيتهم يجعلها أكثر التزاماً بالسلام. بعضهم الآخر يذهب أبعد من ذلك، إذ يرى سريان نظرة النساء على أطفال الطرف الآخر في الحروب المحتملة! تقول الكاتبة مع أن هذه الآراء تكيل المديح للمرأة، إلا أنها في الوقت نفسه تضفي عليها صفات ترتكز إلى طبيعتها كونها امرأة، وهذا وهم من الأوهام السائدة.
عندما ترتكب النساء عنفاً سياسياً وجنسياً، فإنهن يفعلن ذلك لأسباب مختلفة لدى الرجال، ووجب دراسة تلك الاختلافات.
هذا الرأي يدعي أن كمية العنف وكيفيته مختلفان لدى المرأة عما لدى الرجال. توضح الكاتبة وزميلتها بينتا في المؤلف آنف الذكر أن صورة المرأة التي ترتكب العنف السياسي والجنسي في وسائل الإعلام/التضليل تلصق بها ثلاث صفات هي: «الأمهات» و«المتوحشات الكاسرات» و«البغي».
نشر الكثير عن فظائع ارتكبتها ألمانيات في معسكرات الاعتقال النازية


وهناك أوهام أخرى تذكرها الكاتبة يمكن العودة إليها في المؤلف.
هدفت الكاتبة للقول إنّه بدلاً من النظر إلى المرأة على أنها مصطلح طبيعي وفصلها عن الرجال أو عن الذكورية، فإن فصول المؤلف تدرس أولئك النسوة اللواتي يمارسن العنف السياسي والجنسي في أثناء الحروب كممارسات مجندرة، يبحرن عبر علاقات مجندرة ويعِشن في عالم مجندر.
الفصل 1): الظروف التي دفعتهن إلى حافة الموت - الجندر والحرب والإبادة الجماعية والعنف الجنسي: هذا الفصل يدرس العلاقة بين الجندر والحرب والإبادة الجماعية، لكن على نحو متعمق إذ يوضح العلاقة المعقدة بين الجنس (sex) والجندر والتوقعات الجندرية وتلقي العلاقات الإنسانية.
الفصل 2): تواصل رجل-رجل - استحالة اغتصاب النساء للنساء: هذا الفصل يوضح، ضمن أمور أخرى، أن الظروف المحيطة بنا تجعل أي تعامل مع مسألة الاغتصاب في الحروب يستدعي كون المرأة هي الضحية والرجل هو الجاني أو المجرم (لأن الاغتصاب جريمة لا جناية أو جنحة).
الفصل 3): جرح لا ينسى - النظر في اغتصاب النساء في الحروب: خصصت الكاتبة هذا الفصل للحديث عن جرائم اغتصاب النساء في أنحاء مختلفة من العالم: دارفور، وجمهورية الكونغو الشعبية، وألمانيا، ويوغسلافيا [سابقاً]، وإرمينية ورواندا.
الفصل 4): ليس ثمة من برهان على أن النساء أسوأ من الرجال عند ارتكاب جرائم الاغتصاب: فَهْم النساء والحروب والاغتصاب.
الفصل 5): جريرة الاغتصاب: كيف غيرت النساء المغتصِبات الاجتهادات القانونية ذات العلاقة.
الفصل السادس والأخير «إحدى أكثر الخرافات ثباتاً في عصرنا: إعادة تصور المرأة والحرب والاغتصاب» وقد خصصته الكاتبة للاستنتاجات.

* Women as Wartime Rapists Beyond Sensation and Stereotyping (2016). New York university press 2016. 322 pp. laura sjoberg