كل شيء في العالم يمر عبر مرفأ نابولي. حسناً، ليس روبرتو ساڤيانو (1979) الإيطالي الوحيد الذي تحدث عن المافيا. المسيح توقف في ايبولي عند كارلو ليفي، والطفلة ايلينا فيرانتي ما زالت ضائعة وغيرهم كثيرون. حتى باولو سورنتينو معاصرنا يمرّ عرضاً على رجال الكامورا في روايته، كأنه يعرفهم ويعرف بلا تكلف سبب وجودهم، أو بكلمات أدق: يعرف أن الجميع في نابولي يعرف ذلك أيضاً. ما الذي يجعل سافيانو نجماً إلى هذه الدرجة؟ ليس الأدب. ليس الأدب بما هو أدب متنه السرد وقوته في جاذبيته البلاغية وكل عدته لغوياً وفلسفياً. ثمة من يتجاوزه في ذلك بكثير من أقرانه الإيطاليين. ما يميّزه هو صورته كبطل مسجون في قفص روايته، رجل واحد يتحدى المافيا. أدبياً، ما يميزه هو أن روايته الأشهر، كانت بمثابة عمل استقصائي، أو إخبار، مزيج من الصحافة والرواية. وفي محاولة لإنصافه قد نقول: تميزه الشجاعة، قبل أن يصير أسير الصورة الفانتازية للشجاعة.بين سافيانو، الذي يدافع عن قيم الحداثة السائلة بلكنة الـ CNN، والشبان الذين يستمعون إلى أغنيات الحب الإيطالية ويبكون من أجل حبيباتهم قبل الذهاب إلى القتل، كثيرون سيختارون سافيانو طبعاً. ولكن هؤلاء سيبقون دائماً بحاجة إلى بذل جهد أكبر، لتفكيك شخصيات سافيانو، وإخراجها من السياق التقليدي. بعد قراءة «غومورا» تتوجب القراءة مجدداً، لإنقاذ رجال العصابات من التعالي الليبرالي على المهمشين الذين تدعو النظريات إلى بقائهم في أمكنتهم إلى الأبد. ربما، في «غومورا»، يتوجب وجود نظرة أنتروبولوجية أكثر صرامة إلى مؤسسة العائلة، وعلاقتها بجهاز الدولة، وخلف كل شيء بالنظام. للإنصاف أيضاً، قد تكون هذه العلاقة موجودة في جميع روايات سافيانو، الذي كان صحافياً في الأصل. وإن كان وضعه الأمني يستدعي التعاطف، فإنه لا يعفي لكنة سافيانو من الإسراف في التركيز على حياة الهامشيين نقداً وجلداً وتعاطفاً، بأسلوب يشبه أسلوب الدعاية الأميركية عن سوق المخدرات في كولومبيا. أسلوب يتعالى على شخصياته حتى عندما ينزل إليها في القعر الذي وجدت نفسها فيه. كتابه الأخير «عصابة الأطفال» (صدر بالإيطالية عام 2016 ـ وأخيراً بالفرنسية عن «دار غاليمار»)، يدور حول صنم كامورا، حول القصص ذاتها. لا يمكن الدفاع عن أبطال كامورا، لكن سافيانو يكاد أحياناً أن ينجح في التمييز بين الكاموريستي والمافيا، وبين الكنيسة كمؤسسة سلطوية والكنيسة كجزء من الشعب، وبين المافيا وأدواتها الذين هم أشخاص عاديون. ما يبقى ناقصاً دائماً هو العلاقة بين المافيا والنظام، فكما أن رجل العصابات لا وجود له إلا كأداة للمافيا، فالمافيا لا وجود لها إلا كأداة تعمل داخل النظام لا خارجه. لعل هذا ما ينتبه إليه سافيانو، ليس عندما يزور باريس ليوقع النسخة الفرنسية من كتابه، إنما في نابولي نفسها: «لا يوجد شيء اسمه مافيا. المافيا ليست علنية. لا يمكنك أن تراها، إنما تشعر أنها موجودة في كل مكان، تراقبك، جاهزةً للتدخل». الكامورا حولنا، في بلداننا البعيدة عن نابولي.
كذلك، ثمة فارق كبير بين «كامورا» و«غومورا». كثيرون يعرفون ما يعرفونه عن كامورا من رواية سافيانو. ولذلك يستعملون اسم روايته للدلالة على الاسم الذي يُطلق على المافيا في أكبر مدن الجنوب الإيطالي، وهو استعمال خاطئ بلا شك. قد يحتاج هذا شرحاً إضافياً: عناصر المافيا يسمّون هذا الوعاء الذي ينتمون إليه بالتنظيم، لكن الناس يطلقون على رعبهم في نابولي: كامورا. أما غومورا، فهي المدينة المستقاة من التوراة. مدينة الجحيم. وهذا يحسب للكاتب الذي يزور باريس، مرافَقاً بالحرّاس، وقد دخل أخيراً في سجال عنيف مع وزير الداخلية الإيطالي، بعدما اتهمه بتبييض أموال المافيا الكالابرية ودافع عن صديقه الكالابري الذي يساعد المهاجرين. رغم أنه يبدو Trendy أكثر من اللزوم، إلا أنّ سافيانو محق في مسألة رئيسية: خلف العالم، هناك المافيا. ما هو ليس محقاً فيه، كامورا ليست المنظمة الإجرامية الأخطر في العالم. لمعرفة المنظمة الأخطر، يجب العودة، غالباً، ليس إلى سافيانو. يجب العودة إلى أنطونيو غرامشي.