ترجمة: سوار ملا
جوان قادو *

لا تُبارحُ
لا تُبارحُ زجاجَ النوافذِ
آثارُ عيونِ القططِ المضيئة
وكذا آثارُ وصمةٍ يخلّفُها يأسُ الخلوةِ الصامتُ النَّهمُ.
عمر حمدي/ مالڤا: «تلوين I» (زيت على قماش، 1984)

لا تُبارحُ زجاجَ النوافذ
قهقهاتُ الجَدَّاتِ،
قهقهاتهنّ التي بهيئةِ مَلْبَنٍ
لا يكاد يكفيه عصيرُ عنبِ جبال أومريان برمتِه.

لا تزولُ قطّ
آثارُ وجوهِنا
بُعيد الإهانات والخوفِ،
بُعيد تناول نبتة الكاردي (1)
النامية أسفلَ البطنِ المدلَّى
لأتانٍ حبلى.

(1) الكاردي: نبتةٌ برية شديدة المرارة؛ يُحكى في المرويات الكلاسيكية الكردية أن من يتناولها يصاب بالبكم.

طفل مصابٌ بالحصبة
طفلٌ مصابٌ بالحصبة
يهرولُ في رأسي
أصيحُ باسمه
لكنه يتغافلُ عنِّي
أُطاردُه
لكنّي لا أدركه
أغفو
فيوقظُني
يلاحقهُ صوتي
فيشيحُ بوجهه عنِّي.
آثارُ قدميه تتجلَّى في صلصالِ خَجَلي،
في كفَّيه سلحفاتان ممدَّدتان على ظهريهما،
عينان كانتا لي، عينان وحشيتان،
كنتُ أبصرُ بهما
رائحةَ موتِ الورودِ أوانَ ألمي
والحريَّةَ السقيمةَ التي تلتهمُ جثثَ عشَّاقِها.
عمر حمدي/ مالفا: «الآلهة الجديدة II» (زيت على قماش ـ 1991)

اسمكَ
اسمكَ حيوانٌ جريحٌ
ينتحبُ في كهفِ فمي
فتحلُّ آهاتُه مكانَ صوتيَّ.
عسلٌ قاتمٌ كوثرٌ
ينسابُ من جراحِه.
بشهوتِه
أريدُ أن أسيِّعَ فمي
وألا أفتحهُ قطّ ما دمت حيّاً.
لعظمةِ كَربه يلتهمُ بشراهةٍ
الأسماء والكلمات؛
إنَّه آكلُ كلماتٍ،
بهيمةُ قربانٍ
لا أقوى على نحرِها؛
إنَّه خيال لساني الصَّعب،
شفرتي الناصعةُ المثلومةُ
التي خبّأتُها لسلخِ ما بقي من وداعةٍ.

* جوان قادو، شاعرٌ كرديٌ سوري مقيمٌ في ألمانيا، وُلِدَ سنة ١٩٨٠ في مدينةِ عامودا. يكتبُ الشِعر باللغة الكرديَّةِ.


سالار ملا *

خطواتٌ مُنهَكةٌ تحت القمر
أيُّها القمر؛ يا قمراً يُرسَم حول فناءِ مدنٍ حالكة
وفي رقبته طوقٌ مفتوحٌ كئيب.
خفافاً تسيرُ على الأَرْضِ الطريَّةِ
آثارُ الخطواتِ الموحشةِ،
وهكذا، بوهنٍ، تتناثرُ،
كأنها أشواك متفتِّحة في دروبٍ مقفرة.

آهٍ، أيُّها القمر،
ما أضعف وهجكَ.

يدٌ بعد أخرى تختفي
كأخشاب حطَّمها تصفيقٌ طويل.

دون أن يلمحكَ أحدٌ، كحارسِ قبرٍ خفيٍّ،
تُنقِّعُ رسائلكَ السريَّة في ماءٍ حار،
أيُّها الآدميُّ التعسُ الوحيد.

الوريقاتُ التي يُقطَّر منها الماءُ تحت الثلجِ
تُسعَّرُ في كلماتك، تلتهبُ!

ليس هيِّناً، ذاك الحمل على كتفيكَ،
الذي مثل جرحٍ جائشٍ يتسلَّل في الظُلمةِ إلى أحلامك وأمنياتك.

يسيرةٌ حياتُك
تحت قمرٍ مُنشرحٍ يدوم كالأجراس.
رحبٌ كساعةٍ لا تموتُ
اسْمُك الذي لم ينادك به أحدٌ قط.
أساكَ سارحٌ بخياله في زمانك المفقود.

هكذا، مثل مظلّةٍ مغلقةٍ تحت قمرٍ مديدٍ،
لا تتعلَّق بِشَيْءٍ.
كلُّ الأشياءِ تعبرُ فوق حافاتٍ
يُشعلُها ظلٌّ مبتورٌ.
أنتَ أيضاً، لا تهتفُ لشيء،
غير أزهارك المنسية خلف بركةٍ غريقة.

أحدِّقُ
أحدِّقُ بعيداً جدّاً، بقدر ما أستطيعُ، أو بأشياء قريبة جدّاً؛
أواه، ما أعتم هذا الليل الممدَّد أمام عيني التي كجوهرةٍ خَرِبةٍ عمياء.
شعاعٌ من غمامٍ أسودٍ لا ينتهي،
يشدُّني نحوه.
لكنّي أظلُّ مُحدقاً؛
أحدِّقُ، بلا حيلةٍ، في ذاك الطريقِ الذي سيخلّصني!
ليس لأودِّعَ، بل لأتفكَّر في تلك الأشياء،
التي لا تصنعها السعادةُ أو الحزن،
بل المنبَعثة من صفيرٍ طويل تحتَ أشجار مذعورة في الصمت
من صراخٍ لاذعٍ يتخفَّى بين السُحُبِ
قبلَ أن يستحيلَ حمىً ويتغلغل في أعماقنا إلى الأبد.

* سالار ملا، صحافي وشاعر كردي سوري مقيمٌ في ألمانيا، ولد سنة ١٩٨٨ في مدينة عامودا. يكتب الشِعر باللغتين العربية والكردية.


حسن حليمة *

مُرغماً أصبحُ سمكةً
لبرهةٍ يسيرةٍ أجلسُ مستنداً إلى حجرٍ، فتتجمهرُ حولي عناكبٌ وتلفّني بخيوطِها حتَّى أصبحُ كرةَ صوفٍ واهنة. بولاعةٍ في يديَّ أشعلُ ساقَ إحداها، وأتركه مثلي عاجزاً، خائر القوى.
عناكبٌ أخرى تتقدَّمُ نحوي وتنسجُ حول يديَّ خيوطاً بالغة المتانة.

خفيفاً يتساقطُ الثلجُ ولا أتبلَّل. إنّي وسط زحامٍ ولا أحدَ ينظرُ إليّ غَيْرَ فتاةٍ زهريَّةِ الرُّكبةِ، تمدُّني نظراتُها بطاقةٍ أمضي بِهَا صوبَ نهرٍ ألمحُه. أسقطُ في الماءِ وأطفو على سطحه. هناك، في الماءِ، أجدُ أختي عاريةً وحولها أسماكٌ كثيرةٌ تحومُ. أخجلُ وأنكِّسُ بصري، لأنّي لم أرَ قبلئذٍ قطّ أجسادَ شقيقاتي عاريةً. فتكلِّمني أختي، قائلةً: هذه الأسماك أطفالي.

آهٍ ما أجملَ هذه الأسماك! ها هي تدنو منّي وتلتهمُ أصابع قدَمَي كلَّها؛
أواهٍ، كم يؤلمني ذلك، لكنّي أخفي أنيني عن أختي.
ها الأسماك تحومُ حولي، تدغدغني، وتشدُّني معها صوبَ أختي، فأُحالُ بدوري سمكةً وأحومُ معها.

يدُ صديقي وعشُّ السنونوات
ما أجملَ وجه طفلتي النائمة بجانبي؛ آهٍ كم يشبه وجهَ صديقي الميِّت.
أنظرُ إلى عينيها المقفلتين، فتصبحان سرباً من عيونِ سنونواتٍ تترقَّبُ أحجاريّ. تُطاردني العيونُ وأهرول هارباً منها؛ أصادفُ غيمةً نحيلةً لا تكاد تسعني، غيمةً تأخذُ منِّي ظلِّي عنوةً، الظلَّ الذي أصبحَ، بصورةٍ ما، صديقي؛ الظلّ القصير حيناً، والذي يمتدُّ فيتجاوزني حيناً آخر، الظلّ الذي هنا، على هذا الجانبِ وذاك. الظلّ الذي يُحيلني شخصاً هَرِماً يحبُّ الوحشة.

ومن ثمَّ، هكذا بغتةً، أحضرُ إلى خيالي، فأجدُني بصحبةِ صديقي الميِّتِ بين حشدِ صبيةٍ أفظاظٍ، صديقي يمدّ يده ليصدّ أحجاري المقذوفة نحو عشّ السنونوات؛ والعيون تلك، عيونُ الطيور، لا تفارقني قطّ، تظلُّ تلاحقني، فيمسكُ صديقي الميّت بيدي ويهرولُ بعيداً، يهربُ بي، يشدُّني خلفه، لكنّ قدمي تتعثّران بكومةِ ذكرياتٍ، فأسقطُ بينها وأغفو.

* حسن حليمة شاعرٌ كردي سوري مقيمٌ في ألمانيا، ولد سنة ١٩٧٥ في مدينة عامودا. يكتب الشعر باللغة الكرديَّة.