أنهيت أمس قراءة آخر رواية كانت بحوزتي، وبما أنني لا أستطيع قضاء يومي بدون قراءة رواية جديدة، فقد قررت الذهاب مجدداً إلى المكتبة. في الحقيقة، لم يكن هذا هو السبب الوحيد الذي يجعلني في كل مرة أسارع للذهاب إلى المكتبة، بل هناك عامل آخر يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالقراءة كان يشغلني منذ مراهقتي ويحفزني طوال الوقت على اقتناء الكتب، والانكباب على قراءتها بلا ملل.
كيف أشرح هذياني!؟ منذ ما يقارب سنة وأنا أبحث عن موضوع لروايتي الأولى، أو أي خيط يمكن أن يصلني بالبداية، لأن أصعب شيء دائماً هو البداية. كانت أسئلة من قبيل: كيف أبدأ ومن أين؟ وما السبيل إلى الكتابة الأدبية الناجحة؟ تزيد من هذياني.
ملصق فيلم «اسأل الغبار» (2006)

وبما أنه يقال عادة إن الموهبة وحدها لا تكفي لكتابة أدب جيد، بل إن المثابرة على القراءة تضيف إلى الكاتب خبرات عديدة ومتنوعة، عدا عن كونها تثري خياله، فقد كنت أنشغل بالقراءة بشهية وحب لا يضاهيهما شيء في الكون. أحمل الكتاب بعناية بين يدي كأنه جوهرة ثمينة سريعة الانكسار، وأسارع إلى غرفتي كي أختلي بنفسي. لكن، رغم الطقوس التي أحرص عليها، وهالة السعادة التي تحيطني أثناء القراءة، إلا أنها سرعان ما تتحول إلى كرب، حينما أحاول جاهداً أن أمسك العصا التي سأستدل بها على الطريق. فكلما حاولت أن أفك عقدة قلمي ليفيض بالكلمات والجمل على الصفحة البيضاء التي تتحداني بطهرها المراوغ، يخيب ظني بقدراتي الإبداعية.
تجولت بحماسة بين الأرفف، وأنا أداعب بأناملي أغلفة الكتب: هناك كتاب يأسرك من عنوانه، وآخر يغريك اسم كاتبه لأنك أحببت أسلوبه أو لغته أو عوالمه التخييلية في زمن ما، وهناك كتاب ما قد تبعده عنك بسرعة لسبب تجهله.. بعد جولة طويلة وممتعة، اشتريت في النهاية ست روايات.
عدت مسرعاً إلى المنزل والفرحة تجرجرني من يدي. بسطت الكتب أمامي فوق المنضدة وأخذت ألمسها وأشم رائحة أوراقها بشغف. أي واحد أفتتح به يومي؟ سألت نفسي. كانت أمامي عناوين مختلفة مغرية، وأعرف أنني ما إن أبدأ بقراءة رواية ما حتى أسارع إلى إنهائها كي أقرأ التالية.. إنها عاداتي القرائية، أو ربما هي اللهفة التي تغويني مذ أن استبدّت بي شهوة الكتابة. خامرتني فكرة قلت إنها ستضع حداً مؤقتاً لحيرتي؛ حيث كتبت عناوين الكتب في قصاصات ورقية مطوية بعثرتها على مكتبي واخترت واحدة منها.
بعد اختيار الرواية التي سأبدأ نهاري بقراءتها، قمت بتغيير مكان القراءة هذه المرة؛ حيث انزويت في غرفة في السطح كانت قد خصصتها والدتي للأشياء التي لا تستعملها في العادة، والتي قد تستغني عنها مؤقتاً. كنت أقضي في تلك الغرفة ساعات النهار والليل، ولا أنزل إلى المنزل حيث أسرتي إلا نادراً، أي حينما يغلبني الإحساس بالجوع.
قضيت قرابة شهر في قراءة الروايات التي اقتنيتها، وهذه المرة أيضاً لم يسعفني الحظ في كتابة شيء ذي قيمة، فكل ما أكتبه اليوم يتبدى لي في الغد تافهاً، ركيكاً، وبدون معنى. أصبت بإحباط شديد لأنني لم أكتب ما يقنعني. في مقابل ذلك، كانت تعذبني وتؤرقني أحلامي.. أحلم بعناوين كتب سأكتبها، وتشغلني أحداث ووقائع يمكن أن تصلح كأفكار لرواية مدهشة. آه.. ما أعذب وأمَرَّ التفكير في الكتابة! إنها حالة من الغرق وسط فوضى المشاعر والأفكار والخيالات والآمال الضائعة..
***
كنت أشعر عند استيقاظي هذا الصباح بأن في داخلي طاقة مذهلة للعطاء.. وأحس بنشاط يسري في عروقي، رغم أنني لم أنم الليلة الماضية بما فيه الكفاية، فقد استيقظت أكثر من مرة في الليل.
رغم كل شيء أقول لنفسي: إنه يوم جديد.. وأمل جديد يلوح عالياً في سماء الكتابة..
سأغيّر إن اقتضى الأمر أقلام الحبر التي أكتب بها، سأغير شكل الأوراق، وتوقيت الكتابة.. سأفعل أي شيء لأكتب رواية تستحق أن تُقرأ.
نفضت عني غبار الهواجس واتجهت صوب المطبخ لإعداد قهوتي الصباحية. كانت والدتي منهمكة في غسل الأواني، وبعد نظرة ملغزة مبطنة بمعاني التهكم، أخبرتني وهي تضحك أنني كنت أردّد أثناء نومي كلمات باللغة العربية الفصحى. لم تستطع والدتي أبداً فهمي أو فهم ولعي بهذا العالم الذي اخترته واختارني. هي التي لطالما اتهمتني بالجنون، والبطالة، واللاجدوى، بسبب الكتب التي أقضي جلّ وقتي في قراءتها، كما كانت تستغل أي فرصة لتسخر من حلمي بأن أصبح كاتباً فتقول بنبرة هازئة: «سننتظر أن تبيع كتبك لنخرج من أزمتنا المالية»، وتضيف بعد نوبة من الضحك: هل ستتذكرنا بعد أن تصبح غنياً؟ أما أنا فقد كنت أعزي طموحي وأرعاه حينما أتذكر حكاية برنارد شو الذي كان يعاني من سخرية والدته وأخته من حلمه بأن يصبح كاتباً، لأنه ببساطة كان في نظرهما عاطلاً من العمل وعالة عليهما.
لم أكن أعير اهتماماً لما كانت تقوله والدتي، لأنني كنت مؤمناً بحلمي، رغم الخيبات التي تكسرني حيناً. كتمت غيظي وألححت عليها لتتذكر الكلمات التي كنت أردّدها في حلمي. قالت وهي تحاول التذكر: «غبار نعم، نعم تذكرت.. كنت تقول: اسأل الغبار.. وكلمات أخرى لم أستطع تبينها.»
خرجت من المطبخ باتجاه غرفتي، وهناك، ظللت أفكر في هذياني أو حلمي الذي لم يعلق منه شيء في ذاكرتي. فجأة جالت في خاطري فكرة نفذتها فوراً، أخذت حاسوبي، وكتبت في محرك البحث جملة «اسأل الغبار». استغربت حين وجدت أن هذه الجملة عنوان لرواية حول الكتابة للكاتب جون فانتي.
لا أستطيع وصف الشعور الذي تملكني بسبب الطريقة الغريبة التي عثرت بها على هذه الرواية. أأكون سبق لي أن سمعت بها في زمن مضى لكني لم أتذكرها إلا في حالة اللاوعي؟ لكن لماذا هذه الرواية بالضبط؟ إن الأحلام حقاً غريبة، وهناك من الأحلام ما يعطينا رؤية استشرافية للمستقبل، لن أفهمها إلا في ما بعد..
ذهبت فعلاً للبحث عن الرواية لاقتنائها. ولا أنكر أنني تلكأت في قراءتها في البداية، لا أعلم السبب حقيقة. ربما لأنها هي التي اختارتني ذات حلم غير متوقع، وربما لأنني كنت خائفاً من شيء ما قد يطالعني بين أسطرها. المهم أنني شرعت في قراءتها، فاندهشت من الشبه بين بطل الرواية أرثورو بانديني، الذي يحلم بأن يصير كاتباً مشهوراً، وأي كاتب ناشئ، يحترق بجمر الكلمات الملتهبة. ولا أدري كيف حصل ما حصل وأصبت بلوثة بانديني، حيث صرت أتقمّص شخصيته، وأصرخ في وجه أمي حين تنعتني بالعاطل: أنا كمال ناجي روائي وكاتب مشهور.
لقد كانت قصة بانديني قصتي، بل قصة كل شخص أصابه مرض عضال اسمه الكتابة، حين يتمنى أن يقبض على رمل الإبداع في قبضته من دون أن يتسرب من بين أصابعه.
ولجت رسمياً باحة الجنون، حينما صار كل من في المنزل يتعامل معي على هذا الأساس؛ فقد كان والدي يتبادل النظرات مع والدتي حين أبادرهما بالحديث، وكأنني أتكلم لغة غير مفهومة، كما كانت أختي تقوم بحركة بيدها تشير إلى جنوني. لم يسعني فعل شيء حيال حياتي مع أسرتي، فعدت إلى نفس الروتين السابق: أنزوي في ظل غرفتي ليل نهار. كانت أحلامي المنهارة بادية للعيان. ورقة ممزقة، ورقتان، اثنان، ثلاثة أربعة.. يا إلهي.. ما هذا العذاب الذي أعيشه في كل مرة أحاول أن أكتب شيئاً جديراً بأن يسمى أدباً.
ومع ذلك في كل مرة أمنّي نفسي بأنني سأصير يوماً ما كاتباً مهماً.
***
أطفأت المنبه الذي كان يشير إلى الثامنة صباحاً، وبينما كنت أتأرجح بين اليقظة والنوم، فكرت في كتابة قصة قصيرة. لِمَ لا؟ فلأبدأ بقصة مذهلة. فكرت طويلاً وأنا ممدّد فوق فراشي كيف أشرع في الكتابة. فجأة، ومن دون سابق توقع، أخذت أركض وأقفز كالمجنون في الغرفة وأصيح: وجدتها.. وجدتها.. نعم وجدتها...بعد نوبة الهستيريا التي ألمّت بي، هدّأت من روعي، وأخذت نفساً عميقاً، ثم جلست على طاولتي المتواضعة، وضعت الأوراق أمامي والقلم بين أناملي.
بعد برهة تأمل، انهالت عليّ الكلمات والأفكار وكأنني أضغط على زر في مكان ما من رأسي. كتبت صفحة بدون توقف، وعندما أعدت قراءتها أصبت بالذهول. أخيراً لقد تحررت من القيود التي كانت تعكر صفو قريحتي..
وبعد يومين من الكتابة المتواصلة، كنت قد أنهيت كتابة القصة القصيرة الأولى في مشواري الإبداعي. كتبتُ هذه القصة.
* وجدة/ المغرب