عندما نتعامل مع مسألة حب اليهود [!] أو كراهيتهم/ معاداتهم (anti-semitism) ـــ وهو يشكل جوهر موضوع كتاب «مارغريت ثاتشر اليهودية الشرفية: كيف ساهم يهود بريطانية في تشكيل المرأة الحديدية ومعتقداتها» (biteback publishing ــــ2017) لروبرت فيلبوت ـــ من المهم العودة دوماً إلى الجذور العَقِدية/ الدينية لذلك الفكر. وقد أوضحنا في عرضنا مؤلفاً سابقاً عن مدى تغلغل «المسيحية الصهيونية» في تكوين العقل البريطاني (الصهيونية قلب الأمة البريطانية - «الأخبار» 28/7/2018). فلسفياً، من غير الممكن فصل «حب اليهود/ Judeophilia/ philosemitism»، من «معاداة/كراهية اليهود» anti-semitism. فكلاهما يدعوان إلى فصلهم من مجتمعاتهم وترحيلهم إلى خارج بلادهم التي عاشوا فيها مئات السنين. وهما في الوقت نفسه لا يختلفان كثيراً عن الصهيونية التي تدعي أن اليهودية أمر خاص، لا مثيل له في تاريخ البشرية، أي إنها ديانة وقومية في الوقت ذاته، وأن «اليهودي» المعاصر هو نفسه الذي عاش في أزمنة التوراة المتخيلة، وأن لا شيء تغير في شخصه وولائه وما إلى ذلك من الخزعبلات.

حب «اليهود»، ونحن نضع المصطلح بين مزدوجين اعتراضيين لعلمنا بوجود أكثر من يهودية واحدة، بل أكثر من اثنتين أو ثلاث، وأن تمكن الغرب من تأسيس كيان صهيوني إشكنازي على أرض فلسطين لم يؤد إلى إزالة الفوارق بين مختلف «اليهوديات» بل إلى زيادتها ومضاعفة جوانب التناحر بينها، وسنعود لهذا في منبر آخر.
قلنا إن الالتزام بـ «حب اليهود» يعني التشارك أيضاً في كراهيتهم، وبالتالي في كراهية الفلسطينيين والعرب، لأن تأسيس كيان العدو عنى في الوقت نفسه تشريد أهل البلاد الفلسطينيين وطردهم بل حتى إلغائهم تماماً، كما حدث في الفترة الواقعة بين عامي 1948 ومنتصف الستينيات عندما أسس أحمد الشقيري ورفاقه منظمة التحرير الفلسطينية. لكن «حب اليهود»، المرتبط بمادة كتاب روبرت فيلبوت، ليس أمراً بريئاً لأن المسيحية الصهيونية، هي جذر الصهيونية، فكراً وعقيدة وحركة، وإنما انتهازياً. فالمسيحية الصهيونية وهي اتجاه بروتستانتي، إذا كانت تنتظر «عودة المسيح»، فإنها مجبرة على مساعدة «اليهود» في «العودة» إلى فلسطين تحديداً لأن أساطيرها تقول إن «عودة المسيح» المنتظرة منذ قرون ـ ويمكننا العودة إلى هذا في بحث منفصل ـ ستتم في أرضه وبين شعبه [!]؛ وهو الذي سيُنَصِّر «اليهود» بقيادة من؟ بريطانيا طبعاً. في أواخر الخمسينيات، فقدت بريطانيا مركزها الاستعماري القيادي لصالح واشنطن التي شهدت ولادة الصهيونية المسيحية فيها منذ قرون، وسنعود إلى هذا في عرض مستقل. بالتالي، فإن حماس واشنطن لكيان العدو نابعٌ من انتهازية أيضاً.
على أي حال، وقد أوضحنا هذا الأمر نعود إلى منطلقات المؤلف عن ارتباط «المرأة الحديدية»، أو «الرجل الوحيد في مجلس الوزراء البريطاني» بين عامي 1979 و1990 باليهودية، وبالصهيونية تحديداً، أولاً وقبل كل شيء.
الكاتب، وهو صحافي إنكليزي، وإن اتبع منهجية تبريرية لمارغريت ثاتشر، اليهودية الشرقية، في معاداتها المبكرة لليهود، وتصويتها لصالح حظر تصدير الأسلحة إلى كيان العدو إبان حرب تشرين عام 1973، رغم أنها وقفت ضد ذلك عندما كانت وزيرة التعليم في حكومة إدوَرد هيث المحافظة، إلا أنه كشف عن العلاقة الوطيدة التي جمعتها مع القيادات اليهودية القائمة على تبني النيوليبرالية والتخلي عن الليبرالية التي كانت تنادي بها. لنكن دقيقين، إن عملية اختيار القيادات الحزبية في بريطانيا أعقد بكثير مما يصوره الكاتب لنا، مع أن حزب العمال قرر أخيراً ترك عملية قيادة الحزب للأعضاء بعدما كان ينتخب من أعضاء الحزب البرلمانيين، ما عرّض الحزب وقيادته لهجمات لا حصر لها كون الأخيرة لم يرشحها حكام البلاد الفعليون من رجالات الرأسمال الصناعي والمالي، وكون جيريمي كوربين، الرئيس الجديد يساري بامتياز. يقول الكاتب إن مؤلفه، الذي اعتمد على مراجعة وثائق رفعت عنها درجة السرية أخيراً، ولقاءات مع ذوي الصلة، يبحث في علاقة مارغرت ثاتشر بالطائفة اليهودية الإنكليزية، مع أن «اليهود» يشكلون نحو ربع الذين يحق لهم التصويت في الانتخابات في دائرتها الانتخابية. لكنه ينفي وجود علاقة انتخابية بذلك الحب! بل يعيده إلى تأثرها بوالدها البروتستانتي [كذا]. كما يشير المؤلَّف إلى استعانتها بإمانوِل جكوبوفتس، كبير حاخامات اليهود الإنكليز في مواجهة الكنيسة الإنغليكانية. لكن إن كانت علاقة الحب بين ثاتشر واليهودية فطرية وطبيعية ناتجة من إيمانها وتأثير تعليمها ووالدها، فليس ثمة من تفسير لمعاداتها اليهود واليهودية في رسائلها الخاصة. من ضمن تعليقاتها «إن مظهر تلك المرأة يهودي.. إنها ذات أنف طويل معقوف»!
شخصيتها وسياساتها الداخلية والخارجية تأثرت بشخصيات يهودية إنكليزية


شخصية ثاتشر وسياساتها الداخلية والخارجية تأثرت بشخصيات يهودية إنكليزية ومنهم كبير حاخامات بريطانيا آنف الذكر ورجل الأعمال والثري سير كيث جوزف مؤسس الثاتشرية الحقيقي (conservative market-economy) التي هي في حقيقتها نيوليبرالية، وساهم في تأسيس centre for policy studies. الثالث هو ألفرِد شِرمَن ابن مهاجر روسي وشيوعي حارب في الحرب الأهلية الإسبانية مع القوات الملكية، ثم ارتد ليصبح مستشار المرأة الحديدية، وكاتب خطابات سير كيث جوزِف! الكاتب يوضح علاقاتها الوثيقة مع وزرائها ذوي الخلفية اليهودية ومنهم نايجل لُسُن (nigel lawson) ومالكلم رِفكِند (malcolm rifkind) وديفِد ينغ (david young) وستيفن شِربُرن (stephen sherbourne)، وآرثر سلدن (arthur seldon) الذي كان من مستشاري «معهد الشؤون الاقتصادية» institute of economic affairs الذي قيل فيه «إنه من دون منازع، أكثر مراكز الفكر تأثيراً في التاريخ البريطاني. وقد أفاد من التحالف الوطيد بين أجندة «معهد الشؤون الاقتصادية» النيوليبرالية، ومصالح حكومة ثاتشر وأولوياتها»، و«أنه مركز الفكر النيوليبرالي وأقدمها»، إضافة إلى الثلاثة السابقين.
لكن ثمة من يعرفونها حق المعرفة قالوا إن منبع هواها ذاك هو معرفتها من أين تؤكل الكتف. كانت مارغريت ثاتشر تدرك منبع قوتها الانتخابية عندما حاولت تمييع الحقائق بالمزاح عندما قالت: «يسرني للغاية أن غالبيتهم (الإشكناز في دائرتها الانتخابية) يحملون أفكاري بخصوص أمور كثيرة للغاية» محاولة بذلك نفي اعتمادها شبه الكامل على أصوات اليهود والنيوليبرالية التي قادت بريطانيا إلى الخراب، ما استدعى تمرد قيادات حزب المحافظين عليها وطردها من رئاسته ومن 10 داوننغ ستريت.