كانت خطبة حجة الوداع حدثاً تأسيسياً في الإسلام. صحيح أن ذكراها ترسخت كخطبة وداعية للرسول الذي تنبأ فيها برحيله القريب إلى ربه: «لعلي لا أراكم بعد عامي هذا»، لكن الوداع لم يكن جوهرها، بل البدء والتأسيس. أو قل إنها كانت موعداً للإلغاء والنسخ، وموعداً للإقرار والتثبيت. ويومها، كان هو اليوم الذي فقدت فيه الأشياء أسماءها. فكل شيء كان نظرياً بلا اسم في ذلك اليوم. وكان الناس حين وقفوا بين يدي الرسول في تلك الخطبة، يعرفون هذا. بل كانوا يعرفونه إلى حد مربك.
«الطريق إلى مكة» لشيخ يونس(1880 ـــ طباعة حجرية ـ حسن عويس)

لذا لم يكونوا واثقين بأي شيء عرفوه من قبل. كانوا غير متأكدين حتى من اسم المدينة التي يحجون إليها: مكة ذاتها. فمن يضمن لهم أن اسمها لم يتغير، أو لن يتغير؟ وخذ هذه المقتبسات التي تؤكد ذلك: «ثم قال [الرسول]: أي يوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. فقال: أليس اليوم النحر؟ قلنا: بلى. قال: أي شهر هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال: أليس ذا الحجة؟ قلنا: بلى. قال: أي بلد هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال: أليست البلدة الحرام؟ قلنا: بلى» (ابن سعد، الطبقات الكبرى).
أما في رواية ابن هشام، فقد جاء: «ثم قال: أي شهر هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. قال: أليس ذا الحجة؟ قلنا: بلى. ثم قال: أي بلد هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه» (سيرة ابن هشام).
وكما نرى، فقد سكت الناس حين سئلوا عن اليوم الذي هم فيه، وعن الشهر الذي هم فيه، مع أنه يفترض أنهم يعرفون اليوم والشهر جيداً، فقد كان يوماً من أيام الحج الذي يعرفونه كما يعرفون أسماءهم. وهو ما تؤيده نصوس المقتبسين ذاتها: «فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه». إذن فهم يعرفون اسمه الأصلي، لكنهم لم يكونوا متأكدين إن كان هذا الاسم سيظل كما هو أو أن الرسول سيغيره. ولا يتعلق الأمر باسم شعيرة من الشعائر فقط، بل يشمل اسم مكة ذاتها. فهم لم يحيروا جواباً حين سألهم عن اسم المدينة التي كانوا يقفون على صعيدها: البلدة الحرام، مكة. هم يعرفون أنها البلدة الحرام بالتأكيد. لكن من يضمن لهم أن الرسول الذي وقف لهم خطيباً يومها لن يغير اسمها؟ من يضمن لهم أن لا يصير اسمها «طيبة» مثلاً؟ لذلك سكتوا في انتظار أن يصلهم الخبر اليقين من فم الرسول. فقد كان هذا زمان النسخ والتثبيت. زمن إعادة تسمية الأشياء. من أجل هذا تكررت جملة: «فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه» في النصين. وهذه الجملة تمثل المناخ الذي أحاط بخطبة الوداع في ذلك اليوم الخطير من التاريخ.
ففي ذلك اليوم، كان «الزمان قد استدار حتى عاد كهيئته الأولى يوم خلق الله السموات والأرض» كما قال الرسول في خطبته. أي عاد إلى وضع يشبه الوضع الذي كان بعيد خلق السموات والأرض. ويوم خلقت السموات والأرض، لم يكن للأشياء والكائنات أسماء بعد. كانت الكائنات كلها تنتظر أن تحصل على أسمائها. كانت تقف في الصف كي تحصل على أسمائها، على بطاقات هوياتها. وقد كان يمكن للأرض مثلاً أن تسمى سماء أو حجراً أو نخلة. وكان يمكن للحجر أن يسمى كوكباً. إرادة الله فقط هي التي تحدد ذلك فقط. ويوم حجة الوداع كان مثل ذلك اليوم. إنه يوم الخلق الثاني بإرادة الله. لذا تعطلت الأسماء كلها، وصار يمكن لمكة أن تأخذ اسماً آخر غير اسمها. بذا فقد كان الرسول في ذلك اليوم مثل آدم عندما أعطى الأشياء أسماءها للمرة الأولى: «وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة، فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين. قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم. قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم، فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم أنني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون» (سورة البقرة: 31-33). كان محمد بن عبد الله في ذلك اليوم هو آدم العصر الجديد. كان يمنح لكي شيء اسمه من جديد، أي يشكل بإرادة ربه عالماً جديداً. وكما قال لهم في تلك الحجة: «خذوا مناسككم عني»، فالمناسك تتغير وتنشأ الآن، فإن الأسماء تتغير. أي إنه قال لهم في الواقع: «خذوا الأسماء من فمي».
إذن، فجوهر خطبة حجة الوداع هو جملة: «ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض». فاستناداً إلى هذه الجملة، اتخذت أعمق الإجراءات وأشدها جذرية. كان وضع الزمان في نقطة الصفر ضرورة من أجل وضع تشريعات جديدة. من أجل نسخ أشياء وثبيت أخرى. من أجل خلق عالم جديد.
وانطلاقاً من هذا، ألغيت النسيئة. والنسيئة أمر يتعلق بالزمن، بالتوقيت. إنها في الحقيقة تعبير عن فعل الزمن في الكون، أو هي دليل على تقدم حركة الكون في الزمن. بالتالي، فإعادة الزمن إلى هيئته الأولى تعني في المقام الأول العودة إلى ما قبل حركة الزمن التي أدت إلى التفاوت بين السنة الشمسية والقمرية. وهذا يعني إلغاء النسيئة، التي هي زيادة 10 أيام أو 11 يوماً على السنة القمرية كي تتطابق مع السنة الشمسية. لم يكن ممكناً إعادة الزمن إلى بدئه إلا بإلغاء النسيئة. فالنسيئة تعني أن عجلة الزمن كانت قد تحركت منذ وقت طويل. وإعادة الزمن إلى هيئته الأولى، تعني العودة إلى النقطة التي كانت فيها العجلة قبل بدء حركتها.
وعند البدء، لم يكن هناك نسيئ. أي لم تكن السنة القمرية ولا الشمسية قد خلقتا بعد. فقد كان الكوكبان متوقفين قبل أن ينطلقا معاً. وبما أن الزمان قد أعيد إلى نقطة الصفر، أي إلى ما قبل حركتهما، فقد ألغيت النسيئة، واعتبرت كفراً: «أيها الناس إنما النسئ زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً ليوطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله ويحرموا ما أحل الله. وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق الله السماوات والأرض». إلغاء النسيئة كان إعادة للكون إلى هيئته الأولى، أي إلى نقطة البدء، حيث لم يكن هناك بعد سنة قمرية ولا شمسية. فالزمان يبدأ الآن، أي قبل السنة الشمسية والقمرية. بالطبع، علينا أن نشير إلى أن إلغاء النسيئة حصل بدءاً في «سورة التوبة» (الآية 37). أي أنه ألغي قبل حجة الوداع. لكن الإشهار الفعلي لإلغائها كان في هذه الحجة، أمام الألوف المؤلفة في مكة. 
ومن أجل هذا، فقد جرى تثبيت أشهر السنة على أنها 12 شهراً. ذلك أن النسيئة، أي الكبس، كان يضيف شهراً آخر إلى شهور السنة مرة كل ثلاث سنين، فتصير السنة 13 شهراً. لقد أعيدت العربة إلى الوراء، إلى حالة السكون، ثم من هناك فصلت عجلة الشمس عن العربة، وسار الزمان بعجلة القمر وحده. واعتقادي أن الآية 189 من «سورة البقرة» هي التي رسخت هذا: «يسألونك عن الأهلة قل هي مواعيد للناس والحج». فقبل هذه الفترة التي انتهت بحجة الوداع، لم تكن الأهلة ميقاتاً للحج. كانت ميقاتاً للناس يصرفون بها أمور دنياهم. لكنها لم تكن ميقاتاً للحج. فتحديد موعد الحج كان يجري على أساس شمسي. وكان النسأة، أي كهنة التوقيت، هم من يقررون مواعيد الحج بالارتباط مع حركة الشمس والانقلابات الفصلية، وبحيث يظل الحج في موعده المحدد الدائم. ثم ألغت آية النسيئة، وتكرارها في خطبة حجة الوداع، ففصار الحج يجري على أساس الشهور القمرية وحدها. صار القمر وحده هو الذي يسيّر عربة الزمن.
لكن لم كان الإسلام بحاجة إلى إعادة الزمان إلى هيئته الأولى ويلغي النسيئة؟ لقد فهمنا كيف ألغاها. أي فهمنا كيف أن إلغاءها كان يقتضي إعادة الزمان إلى هيئته، لكننا لم نفهم الدوافع وراء ذلك. فما هو الدافع؟
إجابة على هذا السؤال، علينا القول إنّه لم يكن هناك حج واحد في الجاهلية بل حجان: حج لطائفة الحمس وحج لطائفة الحلة. وكان حج الحمس صيفياً. ومن المحتمل أنه كان يقع في تموز. أما حج الحلة، فكان خريفياً. ويبدو أنه كان يقع بين تشرين الأول (أكتوبر) وكانون الأول (ديسمبر). ولأنه كان هناك حجان، فقد كان لدينا رجبان، أي شهران مقدسان أيضاً: رجب مضر، الذي هو الشهر المقدس لطائفة الحمس، ورجب ربيعة، الذي هو رجب طائفة الحلة. والترجيب في اللغة هو التقديس. وهذا يعني أنه كان لكل طائفة من الطائفتين رجبها، أي شهر حجها. 
وفي تلك الأيام، أي الفترة الممتدة بين غزوة تبوك وبين حجة الوداع، وربما قبيل ذلك، كانت تجري ورشة لجمع تقليدي الحمس والحلة في تقليد واحد، هو الذي سيكون التقليد الإسلامي الجديد. وكان توحيد الحجين في حج واحد على رأس جدول الأعمال. ولأن الحج مسألة حساسة بالنسبة للطائفتين، فلم يكن بإمكان الرسول أن يثبت موعد حج إحداهما على حساب الأخرى. ذلك أنّ الطائفة الأخرى ستعتبر ذلك هزيمة لها. كما أنه لم يكن ممكناً إبقاء الحج مزدوجاً كما كان الأمر سابقاً. فتوحيد الحج نقطة حاسمة في توحيد الدين والمجتمع. ومن أجل حل هذه القضية، اتخذ القرار الخطير: إلغاء النسيئة، أي إلغاء ارتباط السنة القمرية بالسنة الشمسية، أي عمليا إلغاء الموعد المحدد للحج. بالتالي، فموعد الحج سيختلف كل سنة بعشرة أيام. وهو ما سيؤدي إلى انتقاله بالتدريج ليتجول بين الفصول كلها. فهو سيكون صيفياً لفترة محددة، ثم شتوياً لفترة أخرى. وهذا يعني أنّه سيصادف مرة موعد حج الحمس القديم، وأخرى موعد حج الحلة القديم. وبهذه الطريقة تجنب الرسول المشكلة، وأرضى كلا من الحمس والحلة. أما في مسألة موقف الحج، فقد حل الرسول والقرآن المشكلة بالجمع. فقد كان موقف الحمس في المزدلفة وموقف الحلة في عرفة. وكان كل طرف يأمل أن يثبت الرسول موقفه. لكن الرسول قدم لهم حلاً وسطاً، أي جعل الحج بموقفين. فالناس تقف الآن على عرفة ثم تقف في المزدلفة.
وباختصار، فقد كان على الرسول منذ فتح مكة، بل ربما منذ أن بدت كثمرة ناضجة على وشك السقوط، أن يوحد الطوائف المكية، ويحلّ قضايا الخلاف في الشعائر بينها. ولم يكن ممكناً له ذلك، إلا إذا اتخذ موقفاً وسطاً بينهما، بحيث يؤكد للجميع أنه لا ينحاز إلى طائفة على حساب طائفة، وأنه هو القادم من طائفة الحلة لن يجعل من انتصاره انتصاراً لهذه الطائفة. وكان هذا ما فعله حقاً. ولعل آية «سورة البقرة» رقم 142 تشير إلى هذا بالضبط: «وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً». جعلناكم جماعة وسطاً تحكمون بين الطائفتين. وكلمة الناس في الآية لا تعني البشر، بل الحمس والحلة على وجه الخصوص. ومع الزمن، تغير معنى «الناس» وبدا كأنها تتحدث عن الناس جميعاً، وبدا كأن الآية تأكيد على الوسطية كمبدأ عام.
بناء على ما استخلصناه، فإن إلغاء التوقيت الشمسي في الإسلام حصل لسبب مخصوص يتعلق بطوائف مكة، لا بقرار كوني لكل زمان ومكان. وفي الحقيقة، فإن التوقيت الشمسي استعيد لاحقاً في العصر الأموي والعباسي. فلم تكن الدولة بقادرة على تنظيم أمورها على أساس التوقيت القمري. فالدولة تعيش بالضرائب، أي بالخراج، والخراج يقوم على أساس التوقيت الشمسي. فلا يمكن لدولة حقيقية أن تقوم على أساس قمري. لهذا أعيدت الحياة للتوقيت الشمسي، وظل التوقيت القمري مخصصاً لشؤون الحج والمواعيد الدينية الأخرى.
* شاعر فلسطيني