لدينا هذان النقشان من منطقة المدينة المنورة. وحسب ناشرهما فهما يعودان للفترة الإسلامية المبكرة. أما الناشر فهو الحساب التالي على تويتر: نوادر الآثار والنقوش‏ ويبدو لي أن قراءة صاحب الحساب للنقشين ملائمة تماماً.

قراءة النقش الأول:
أنا مهدية [ ثم كلمة مشطوبة]
جارية عزارة




قراءة النقش الثاني:
أنا مهدية التاجرة




وقد افترض الناشر أن النقشين للكاتبة نفسها، أي مهدية جارية عزارة. ويبدو أن هذا أيضاً فرض ملائم.
لكن المثير في النقش الأول إنما هو الكلمة المشطوبة. فمن الواضح أنها شطبت شطباً، ولم تطمس بسبب عوامل زمنية. فلماذا جرى شطبها؟ ومن الذي شطبها؟ هل هي صاحبة النقش أم واحد غيرها؟
لا نستطيع تقديم أي فرضية تجيب على هذه الأسئلة إلا إذا تمكّنا من قراءة هذه الكلمة. وقرءاتها سوف تخضع للتقدير. لكن لحسن الحظ أن الشطب لم يكن مبالغاً فيه جداً، لذا ربما أمكن للمرء أن يفترض الحروف، وأن يقدرها.
وحين حاولت قراءة الكلمة، فقد توصلت إلى أنه يجب قراءتها هكذا: الحمساء. وإذا صح هذا، فالنقش بتمامه يقول:

أنا مهدية الحمساء
جارية عزارة




بناء، فلدينا امرأة كتبت بخط جميل نقشين يقول الأول منهما: «أنا مهدية الحمساء، جارية عزارة»، أو ربما جارية عرارة. ويقول الثاني «أنا مهدية التاجرة».
فما معنى هذا؟ ما معنى أن تملك مهدية صفتين: الحمساء، والتاجرة؟ وهل هناك من رابط بين الصفتين أو اللقبين؟
ويبدو لي أنه من الممكن إيجاد صلة ما بين اللقبين.
لكن علي أولاً أن أشير إلى أنها المرة الأولى التي ترد فيها كلمة «حمساء» في النقوش العربية، إذا كانت قراءتي للكلمة صحيحة. ومن المحتمل أن الكلمة تشير إلى أن مهدية من طائفة الحمس. وطائفة الحمس كانت مكوناً رئيسياً من مكونات مكة. كما أنها كانت المكون المهيمن في الطائف. فقبيلة ثقيف حمسية. وهناك قبائل كبيرة أخرى كانت تحسب من هذه الطائفة، مثل قبيلة عامر بن صعصعة البدوية التي سكنت قريباً من مكة.
وإذا كانت الكلمة تقرأ بالفعل «الحمساء»، وكانت تشير إلى أن كاتبة النقش واحدة من طائفة الحمس، فإن من المحتمل أن يكون النقش الأول قد كتب قبل فتح مكة، أي كتب في عز الصراع. بذا فقد كان وضع كلمة «الحمساء» في النقش تعبيراً عن التمسك بديانة الجاهلية، ونوعاً من الرد على تحدي الإسلام. وفي هذه الحالة، يكون عزارة، أو عرارة، موللى مهدية رجلاً من طائفة الحمس. وتكون هي بوضعها كلمة الحمساء قد عكست شعور سيدها وطائفته تجاه الدين الجديد. لكن الشطب يجب أن يكون قد حدث بعد هذا الفتح. ففي ذلك الوقت، كان الإسلام قد انتصر، وصار ذكر الطوائف الجاهلية غير مرغوب فيه، بل ربما خطر. لقد انتهى عهد الطوائف، من حُمْس وطُلْس وحِلّة. ولم يكن ملائماً لأحد في هذا الوقت أن يذكر بماضيه الوثني وطوائفه. وفي هذا الوقت، ربما كانت مهدية قد شطبت الكلمة. لقد كتبت كلمة الحمساء في نهاية العصر الجاهلي، أي قبل فتح مكة، ثم شطبتها في وقت ما بعد الفتح.
ومعروف أن طائفة الحمس تلكأت في الالتحاق بالإسلام حتى قبيل فتح مكة. كما أن عدداً ضئيلاً جداً من عناصرها هم الذين التحقوا بالرسول في بدء دعوته. فقد كانت هذه الطائفة الأكثر تشككاً في الإسلام، بل الأشد عداء له. لهذا، فعندما ذهب الرسول ليدعو أهل الطائف، استقبله أهل المدينة الحمس بالحجارة. أما الغالبية التي تبعت الرسول في البدء، فمن طائفة الحلة، طائفة جده عبد المطلب، ومن المجموعات الإبراهيمية كالأحناف والأميين. ومن بين الخلفاء الراشدين كان واحداً فقط من طائفة الحمس الأصلاء هو عمر بن الخطاب.
على أي حال، فقد غيرت مهدية توقيعها من «الحمساء» إلى «التاجرة». لكن الحقيقة أنها لم تقدم تنازلاً كبيراً جداً. فالكلمتان مترادفتان، أي تملكان نفس المعنى في نهاية الأمر. فطائفة الحمس كانت طائفة «تاجرة»، أي أنها كانت طائفة خمرية، تشرب الخمر وتبيعه، على عكس طائفة الحلة. بذا، فقد كان الخمر رمزاً لها. وكانت «العرب تسمي بائع الخمر «تاجراً» (ابن منظور، لسان العرب). وذكر «علماء اللغة إن العرب تسمي بائع الخمر تاجراً، وأن أصل التاجر عندهم الخمار. يخصّونه من بين التجار» (المفصل). وبما أن الحمس هم الخمريون، وهم تجار الخمر بالطبع، فقد صارت كلمة تاجر تعني «حمسي» في ذلك الوقت في ما يبدو.
يؤيد هذا حديث عامر بن قطبة المختلف على روايته. لكن استخلاصنا منه أن الرسول الحلي خرج من باب بيت في الحج مع عامر هذا، فاحتج عدد من أصحاب الرسول على ذلك بقولهم أن «قطبة رجل تاجر». أي كيف تفعل يا رسول الله فعل رجل تاجر، أي حمسي، وتدخل مثله من الباب؟ إذ كانت طائفة الرسول هي الحلة. وكان ممنوعاً على هذه الطائفة الدخول أو الخروج من أبواب البيوت أثناء حجهم. وكانوا ملزمين بالخروج والدخول من نقب في سقف البيت: «كانت الأنصار وسائر العرب لا يدخلون من باب في الإحرام، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بستان إذ خرج من بابه، وخرج معه قطبة بن عامر الأنصاري، فقالوا: يا رسول الله، إن قطبة ابن عامر رجل تاجر وإنه خرج معك من الباب» (تفسير مقاتل). والمعنى: أن عامر بن قطبة رجل حمسي يحق له أن يخرج من الأبواب، وأنت لست بحمسي، فكيف خرجت معه؟ لكن لأن فكرة أن مكة كلها حمس كانت قد ترسخت خطأ في عهد التدوين، وأن الرسول بالتالي كان حمسياً، فقد بدا أن المشكلة عند عامر بن قطبة لا عند الرسول. لكن الحقيقة أن الرسول هو الذي خالف التقليد والطقس بخروجه وليس عامراً. وعلى أثر هذه الحادثة نزلت آية: «وليس البر أن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها» (البقرة 189). وهكذا حسمت المسألة. لكن ما يهمنا هنا أن «التاجر» هو الحمسي. بالتالي، فحين تصف مهدية نفسها بالتاجرة، فهذا يعني أنها حمساء. ولدينا دليل آخر من قصة «ضباعة وحزن» الجاهلية على أن الحمس كانوا يوصفون بأنهم تجار. فقد أرادت ضباعة الحلية أن تتزوج من عبد الله بن جدعان الحمسي، فغضب حزن ابن عمها عليها، وقال:
أقوم يقتنون المال تجراً
أحب إليك أم قوم حلول؟
وهكذا، فقد أشار حزن إلى الحمس باعتبارهم «يقتنون المال تجراً»، أي خمرة، ووضعهم في مواجهة «الحلول»، أي الحلة. فأبناء الحلة هم الحلول. التجار هم الحمس، والحلول هم الحلة.
بناء على كل هذا، يمكن القول إن مهدية غيرت اللقب من «الحمساء» إلى التاجرة كي تتجنب الاستفزاز. أي أنها استخدمت لقباً أقل مباشرة وتحدياً وهو «التاجرة». فالتاجرة يمكن أن تفسر بالمعنى العادي، أي بمعنى من يشتغل بالتجارة. وهذا يمكن أن يجنبها المهالك.
بالطبع، كل هذا السيناريو قائماً على افتراض صحة قراءتي للكلمة المشطوبة على أنها «الحمساء».

* شاعر وباحث فلسطيني