هسسسسسسسسسس جدتي تشاهد نشرة الأخبار على قناة «العربية». تنتهي النشرة، فتتنهد وتقول: إنّ سوريا رجعت لورا شي خمسين سنة. تسعل جدتي التّي أشبهها بأورسولا ماركيز، ثمّ تسحب سيجارة من علبة دخاني، أشعلها لها، وتضيف من بين تلك السعلات، وهي ترتشف قهوتها الصباحيّة: العصملي فل وبقت سوريا، الفرنساوي فل وبقت سوريا، أبوك اللي كان يشتغل في السياسة مات وبقت سوريا.
«يَدُ العالَم» للمغربي التُّهامي النادر

أبتسم، وأقول لها: أنتِ تاريخ يا جدتي، وتذكرينني بماركيز. تعض بتحدٍّ على عقب السيجارة، وتنفث دخانها يميناً وشمالاً، ثمّ تقول: فشر بالتاريخ وكاريز تبعك.
■ ■ ■

سيكتشف أحفادي، في حياةٍ قادمةٍ، أن جدهم الأكبر، لم يكن إلا ظِلاً لفأسٍ. أحفادي، سيجتمعون في الغابة، وهم يندبون حظهم، متمنين، لو كان جدهم الأكبر ظِلاً لشجرةٍ.
■ ■ ■

استقر المقام بالأنبياء الثلاثة بعد تجوالٍ طويلٍ ومرهقٍ تحت فيءِ شجرةٍ، وبعد أنْ نالوا قسطاً من الرّاحة تحدثوا دون سابقِ تخطيطٍ:
— النبي الأول: تفاحة للخطيئة. — النبي الثاني: وأخرى للجاذبية. — النبي الثالث: وثالثة للأكل. — النبي الأول: السر ليس في شكل التفاحة. — النبي الثاني: ولا في مضمونها. — النبي الثالث: وليس في لكنة جدنا آدم.
ردد الصدى: أو في لكنة حفيده نيوتن. وردد الصدى ثانيةً: مات آدم، ماااااات نيوتن. وردد الصدى ثالثةً: مات أرخميدس.
— النبي الأول: وبقيت الشجرة. — النبي الثاني: وبقيت التفاحة. — النبي الثالث: وضاع السر رويداً رويداً.
■ ■ ■

كنّا قد بلغنا من العمر وقتها سبع سنوات، كنتُ أحبّه، وكانت تضحكني بعكس الجميع مشاغباته التي لم يكن يستسيغها أبي، خاصّة أثناء قيلولته، إذ كان يؤوب إلى البيتِ مقوسَ الظهر، ومتعباً، فأبي، في تلك السنة الّتي احْتجَبَ فيها المطر، كان يسقي كلَّ يومٍ أرضنا الّتي كانت تقدر بـ 100 دونمٍ تقريباً، وكنتُ مع أخوتي الذين يكبرونني أساعده أحياناً.
استخدم أبي كلَّ الحيل والطرق المغرية والمهادنة مع أخي ليصحبَهُ معه للأرض، وليكفَ عن الضجيج الّذي كان يُحدثه، بيد أنّها لم تفلح معه البتّة، ووصل الأمر بأبي إلى أنْ قيّدَهُ بسلسلةٍ كان يسلخ عليها الخِراف مرّة، وحجزه مرّة أخرى مع البهائم في الإسطبل، مُحْكِمَاً الباب عليه، لكنّه كان يقفل ضاحكاً مِثلَ بهلوانٍ ينجو من أيّ شركٍ.
وفي قيلولةٍ خريفيّةٍ، فزّ أبي من النوم، وصرخ في وجه أخي الّذي كان ينط مِثلَ سعدانٍ من زاوية إلى أخرى: — أُحبّ أخوتك الأربعة أكثرَ مِنك! ثمّ وضع رأسه على مِخدته، واستغرق مِثلَ جثةٍ في النوم.
خَجِلَ أخي يومها، تجمد، جحظت عيناه، وانكمشَ على نفسهِ مِثلَ خرقةٍ مهترئةٍ. وناموا جميعاً.. أما أنا، فقد توجستُ خيفةً لما طَالَ انكماش أخي، فوثبتُ مذعوراً، وبحثْتُ عنه في البيت، لكنّني لم أعثرَ عليه، وسرعان ما توجهتُ للإسطبل، كان توأمي مُعلقاً بالسلسلةِ ذاتها، الّتي كانت تُسلخ عليها الخراف، يتدلى لسانه، فيما الدم الأحمر، ينزُّ مِدراراً من منخريه.
* الحسكة/ سوريا