مرة أخرى، اخترت عرض كتاب «ما عمل المحرر؟ فن وحرفة ومهنة تحرير المؤلفات» لبيتر جينّا (منشورات جامعة شيكاغو ـ 2017) لأن مادته مرتبطة بالعمل الذي أزاوله، ومن أجله حضرت من ألمانيا إلى سوريا مطلع القرن، ولأن تجربتي فيه أهّلتني لإبداء الرأي فيه. مع ذلك، لا بد من الاعتراف بأن النشر في الدول المتطورة مختلف عنه في بلادنا، وقد تكون الاختلافات كبيرة ومؤلمة! التحرير فن مخفي، مع أنه أفضل ما في عملية النشر. فالمحرر يسعى من خلال عمله إلى تقديم مؤلَّف منير ومكتوب بلغة سلسة تسر القارئ. الوصول إلى نقطة النهاية هذه، عملية مطوّلة تتطلب مهارات على المحرر الناجح امتلاكها.

يقدم المؤلف بيتر جِنَّا 27 نصاً بأقلام ناشري الكتب ينتمون إلى دور كبيرة وصغيرة في الولايات المتحدة، علماً بأنه عمل في مجال التحرير لأكثر من عقدين. الملفت في العلاقة مع صدور هذا المؤلف، أن سوق الكتب في الغرب، المرتكزة إلى عالم الكلمات، تكاد تخلو من أي مؤلفات عن المادة. أما في عالمنا العربي، فحدث عن هذا الغياب ولا حرج!
محرر هذا المؤلف قسّمه إلى خمسة أجزاء، تتناول عملية التحرير من الألِف إلى الياء:
1) «الاقتناء: العثور على مؤلَّف»: هذا الجزء يحوي 4 مداخلات هي: البدايات؛ كيمياء الاقتناء (12 قاعدة للمحررين في النشر التجاري)؛ التفكير كأنك محرر أكاديمي (أسرار النشر الأكاديمي)؛ سادة الفروع أو التهذيبات (اقتناء نصوص أكاديمية).
2) «عملية التحرير: من الاقتراح إلى المؤلَّف» يحوي ست مداخلات هي: رحلة المؤلَّف؛ ما علاقة الود بهذا (علاقة المؤلف بالمحرر)؛ الجانب الآخر للرواية (ما تعلمته عن التحرير عندما عملت وكيلة (literary agent))؛ هل ثمة حاجة إلى عملية قلب مفتوح، أم أن المطلوب مقارنة عابرة؟ هذا العمل في حاجة إلى عمل قليل (عن تحرير الأسطر). المقصود هنا أن تحرير كل سطر لا يعني الإسفاف أو المبالغة في تتبع دقائق الأمور أو المماحكة في توافه الأمور. شرح هذا لأن بعض المحررين المبتدئين ينظرون إلى التحرير على أنه كذلك وأخيراً «نحو الدقة والوضوح والانسجام أو الترابط» (ما عمل المحرر (copyeditor))؟ هنا أسمح لنفسي بالاختصار المفيد. عمل هذا المحرر هو تحضير المخطوطة للنشر باستخدام كود متفق عليه. لكن صاحبة هذه المداخلة تقول إن بعض المحررين الجيدين يصوب الأخطاء النحوية والإملائية والتهجئة، مع أنه يمكن أن يذهبوا أبعد من ذلك بإعادة صياغة جمل وضبط الفقرات التي استرسلت في مواضيع جانبية، ويتأكدون من صحة المعلومات ويلفتون إلى عدم التناسق في بعض أجزاء المخطوطة، مع احتمال شطب بعض الجمل سيئة الصياغة وكذلك التعبيرات النمطية، لكن هذا ليس سوى جزء من العمل في هذه المرحلة، لكنه يسوغ وضع اسم المحرر إلى جانب الكاتب، كونه مشاركاً فيه. لكن هذا الأمر نادر ويبقى المحرر وإسهامه في صياغة العمل واختياره وما إلى ذلك مجهولاً. أغلب المدققين اللغويين العرب يصرون على وضع اسمهم وعملهم. كاتبة هذه المداخلة تقول: «إن هذا العمل التفصيلي نادر في هذه المهنة وقلة من المحررين يقبلون إنجازه».
3) «النشر: وضع المؤلف بين يدي القارئ. الجانب الآخر: المحرر وكيلاً». صاحب هذا المقال قال إن بداية عمله كانت تعني له مساعدة الكاتب على تنظيم المخطوطة. المحرر هو استثمار. عمل المحرر هو أولاً امتلاك المقدرة على معرفة المؤلفات التي ستكسب القراء، وثانياً العمل بكفاءة مع الكتّاب وتحسين مؤلفاتهم، والمتعة تنشأ بعد رؤية تمكن الكاتب من التواصل مع القراء. فالمحرر الناجح هو الذي يمتلك تلك القدرات على المدى الطويل، وينجح في كسب رضا رب العمل، بما يجعل الأول محللاً مالياً ومفاوضاً ناجحاً ومتمكناً من التواصل مع البشر وقادراً على بناء علاقات مديدة ومسوقاً ناجحاً ومخططاً للمدى الطويل، أي مديراً! ذكر الكاتب أن عمله كان مساعداً، ثم تدرج ليصبح رئيس مجلس إدارة مجموعة «هاشيت» العالمية المشهورة. «ابدأ بنشر الخبر: المحرر بصفة داعية». قال الكاتب إنه تعلم من معلمه أنه على المحرر أن يكون شريك الناشر. هذا يعني أنه على المحرر أن يكون شخصاً مؤتمناً وموثوقاً. ولذلك فإن أحد مكونات المحرر أن يكون على دراية بما توافر في السوق من مؤلفات تساعده في الحكم على مخطوطة ما؛ «الناشرون المستقلون ومكانهم في عالم النشر».
«القسم الرابع» خصصه المحرر لحديث المساهمين في مختلف التصنيفات: الأدب والقصص والروايات والكتب المتخصصة وكتب الأطفال وكتب المذكرات وكتب العلوم والمعارف والمؤلفات المصورة.
«القسم الخامس» مخصص للحديث في احتراف مهنة التحرير وتجارب الكتاب، وهذا يتعلق بسوق الكتاب والعلوم في الولايات المتحدة فقط حيث لم يحو المؤلف أي إسهامات من القارة مع أنه توجد مؤسسة خاصة بالمحررين في بريطانيا، وهي من مآخذ بعض من راجع هذا المؤلف المثير والمهم، في عالم احتراف صناعة الكتب ونشرها.
27 نصاً بأقلام ناشري الكتب ينتمون إلى دور كبيرة وصغيرة في الولايات المتحدة


أخيراً أود عرض حالتين للتعامل مع محرر: الأولى كوني كاتباً والثانية كوني محرراً. عندما عرضت مؤلفي «مصر وبنو إسرءيل في عسير» على دار نشر تجارية ألمانية، وافق المحرر على نشره باللغتين الإنكليزية والألمانية، لكنه طلب مني إضافة استنتاجات سياسية. طبعاً رفضت ذلك لأن ما نشرته لاحقاً كتاباً، هو في الأصل مخطوطة لنيل شهادة الأستذة من كلية اللاهوت في جامعة «همبلدت» البرلينية. واضح أن هدف المحرر كان إثارة زوبعة تساعد في نشر المؤلف، وهو غير هدفي، ولم ينشر.
المرة الثانية عندما قدمت لي باحثة مخطوطة هي رسالة جامعية. وافقت على النشر لكني طلبت منها إعادة صياغة بعض الأقسام، وتحديداً دمج الهوامش في النص لأن تركيبة المؤلَّف تختلف عن الرسالة الجامعية. رفضت الباحثة ذلك، ولم أنشر المخطوطة.
كما أود التنويه هنا إلى «المجلة العربية للعلوم الإنسانية» الكويتية التي تنشر مقالات وأبحاثاً محكمة. تجربتي مع المجلة كانت إيجابية حيث أعادوا لي البحث مع ملاحظات علمية لم تؤثر في جوهر البحث، بل سهلت على القارئ متابعته. لكن مؤسسات أخرى طلبت مني إدخال تعديلات على أبحاث قدمتها لها، لكنني اعتذرت عن عدم قبولها لقناعتي أن المحرر ليس مطلعاً على تفاصيل مادة مقالي.
أنهي عرضي هذا بالتوصية به وسيكون من المفيد معرفة تجارب محررين عرب، رغم علمي بعدم وجود محررين لدور النشر العرب، رغم توافرها في المجلات المتخصصة؛ لعلنا نتعلم.