في اللحظة التي اكتشف فيها الشاعر السوريالي والممثل والناقد والمخرج الفرنسي انتونان آرتو (١٨٩٦-ـ١٩٤٨) مسرح بالي الاندونيسي عام ١٩٣١ أثناء فعاليات «المعرض الاستعماري الدولي» في باريس ووسط دعوات رفاقه السورياليين التي لم يعرها آذاناً صاغية لمقاطعة الفعالية «الاستعمارية» في فينسين، اكتمل تصوره للثقافة الغربية كثقافة مثقلة بالمادية وإيديولوجيا التطور التقني. ترافق هذا التصور بشعور عارم بالسخط وعدم الرضا: هذه الأزمة الروحية لحضارة مادية عظيمة هي بالضبط ما أطلق عليه آرتو اسم «اليأس المعاصر». في كتّيب صغير كان قد نشره عام ١٩٢٧ بعنوان «مانيفستو من أجل مسرح مُجهَض»، صرّح بشكل مباشر: «نحن محبَطون من النمط الآلي الذي نجده في كل مراحل تأمُّلنا». وفي أحد دفاتره التي كتبها بين عامي ١٩٣١ و١٩٣٢، قال: «إن غربنا المليء بالدعوات المادية قد أشاح بوجهه عن الميتافيزيقا. إن الفوبيا من الميتافيزيقا قد تكون سمة مهيمنة على عقلنا اليوم، بالمقابل، هكذا يمكننا تعريف الشرق: البقعة الوحيدة من العالم حيث يكون الغيب جزءاً من تمرين الحياة اليومية للبشر». أتاح العرض المسرحي المذهل للفرقة القادمة من أندونيسيا التي كانت وقتها ترزح تحت الاستعمار الهولندي، فرصة ذهبية لآرتو لإعادة الاعتبار والتفكير بالمسرح الشامل، الذي تظهر فيه «الرياضيات الهائلة» حيث يتسق الرقص مع حركة الأجساد مع الموسيقى والشعر. الانطباع الأول حول العرض كان صاعقاً بحيث سيصرح آرتو في ما بعد بأن «العرض الذي كان يتضمن الرقص، والغناء والإيماء والموسيقى والقليل من المسرح النفسي كما نسميه هنا في أوروبا، قد أعاد المسرح الى فكرته الأساسية في الخلق المستقل والصافي، تحت زاوية الهلوسة والخوف». أعاد آرتو تعريف المسرح بشكل جذري استناداً إلى هذه الرؤية الشرقية في مؤلفه العظيم «المسرح وقرينه» (١٩٣٨): «المسرح قبل أي شيء هو فن طقوسي وسحري، بمعنى أنه مرتبط بقوة عليا، وبديانة، وبمعتقدات مؤثرة، وحيث الفعالية تترجم بحركات ترتبط بشكل مباشر بطقوس هذا المسرح التي هي التطبيق أو حتى التعبير عن حاجة روحية سحرية»، لينطلق من هذا التعريف للمسرح إلى تعريف للثقافة ككل: «إن كل ثقافة حقة تستند إلى أدوات بربرية وبدائية من الطوطمية، التي أعشق وجهها المتوحش، أي العفوي بالكامل».

«إن فكرتنا المتحجرة حول المسرح تنضم إلى فكرتنا المتحجرة حول ثقافة بلا ظلال، بحيث أن ذهننا كيفما دار فإنه لا يقع إلا على الفراغ، بينما الفضاء من حوله ممتلئ. لكن، ولأنّ المسرح الحقيقي يتحرك ولأنه يستعمل دوماً أدوات حيّة، فإنه لم يزل يحرك ظلالاً ما انفكّت الحياة تتعثر بداخلها. الممثل الذي لا يعيد مرتين الفعل ذاته، بل الذي يخلق الفعل، يتحرك وبالتأكيد يتعامل بعنف مع الأشكال، ولكن خلف تلك الأشكال، وبتدميره إياها، فإنه يتحد بما يتجاوز الأشكال ويعطيها الاستمرارية.
المسرح الذي لا يتحدد بشيء ولكنه يستعمل اللغات كلها: الحركات، الأصوات، الكلمات، النار، الصرخات، هذا المسرح يجد نفسه تماماً في النقطة حيث يحتاج الذهن للغة كي يبدع تمثلاته الخاصة.
في المقابل، إن تثبيت مسرح ما في لغة: كلمات مكتوبة، موسيقى، إضاءة، أصوات، هو أمر يشير إلى اندثاره في وقت وجيز، كأن نختار لغة تنسجم مع الذوق الذي يتوافق مع السهولة في هذه اللغة؛ جفاف اللغة هنا يرافق محدوديتها.
بالنسبة إلى المسرح كما للثقافة، يتعلق الأمر بتسمية وإدارة الظلال: والمسرح الذي لا يتسمر في اللغة والأشكال، يهدم بالفعل الظلال الزائفة، لكنه يمهد الطريق لولادة أخرى لظلال يجتمع حولها المشهد الحقيقي للحياة. أن نكسر اللغة لنلامس الحياة، هو أن نصنع أو نعيد صناعة المسرح؛ والمهم أن لا نعتقد أن فعل الكسر يجب أن يبقى مقدساً أو محظوراً.
إذا كان المسرح الأساسي أشبه بالطاعون، فالأمر لا يتعلق بكونه معدياً، بل لأنه مثل الطاعون هو نوع من التجلّي، من التظهير، من الدفع إلى الخارج لخلفية من القسوة المستترة تتموضع بواسطتها فوق إنسان أو شعب معين كل الاحتمالات الشريرة للذهن. مثل الطاعون، وُجِد المسرح للإفراغ الجماعي للدّمل. إنه دعوة للروح لهذيان يستثير كل طاقاتها. إن فعل المسرح هو كفعل المرض تماماً في آثاره المفيدة، حين يدفع البشر إلى رؤية حقيقتهم كما هي، وحين يُسقط الأقنعة فإنه يكشف الكذب، والوهن والدناءة والمكابرة. إن فِعل المسرح الحق يلوي الجمود الخانق للمادة الذي يهيمن على المعطيات الأكثر وضوحاً للحواس، وحين يظهّر للأفعال الجماعية قوتها القاتمة وقدرتها المخفية، فإنه يدعوها لأن تأخذ مقابل القدر موقفاً بطولياً ومتعالياً لم تكن لتظهره لولا هذا الفعل.
كل ما هو موجود في الحب، في الجريمة، في الحرب أو في الجنون، يجب على المسرح أن يعيده إلينا لو أراد هذا الأخير أن يستعيد ضرورتَه. عملياً، نريد إحياء فكرة المشهَد الشامل. إذا، من جهة، الكتلة واتساع المشهد الذي يتوجه للجسد بأكمله، ومن جهة أخرى، تعبئة مكثفة للأشياء، للحركات، للإشارات، والتي تستعمل بروحية جديدة. وفقاً لهذا المبدأ، نتوخى أن نقدم مشهدية حيث تستَعمَل أدوات الفعل المباشرة هذه في كلّيتها. مشهدية لا تخشى من الذهاب بعيداً في اكتشاف حساسيتنا العصبية، بواسطة إيقاعات أصوات، كلمات، تردّدات وزقزقات تنتمي جودتها وطرق تنسيقها المفاجئة إلى تقنية لا ينبغي كشف أسرارها.
المسرح الغربي الحديث ينحدر اليوم لأنه فقد الإحساس من جهة بالجانب الجدي وكذلك بالجانب المضحك. لأنه أوجد قطيعة مع الجاذبية، مع الفعالية المباشرة والخبيثة- ولنقل بشكل أوضح مع الخطر، لأنه فقد معنى الطرافة الحقيقية والقدرة الفوضوية للضحك على التفكيك الفيزيائي، الذي يشكل قاعدة كلّ شعر. حين تعطي الطبيعة لشجرة ما شكل الشجرة، كان يمكنها أيضاً أن تعطيها أيضاً شكل تلة أو دابة: لو فكرنا بالشجرة حين نرى الدابة أو التلة، فإنّ قسماً من رؤيتنا الداخلية للعالم كان ليتغير إلى الأبد. من هنا نفهم فوضوية الشعر حين يعيد النظر بعلاقة الأشياء ببعضها وبالعلاقة بين الأشكال والمعاني. في فيلم للأخوة ماركس، يحتضن رجل بقرة تطلق خواراً عظيماً، وهو يظن أنه يتلقى امرأة بين ذراعيه. وبعد سلسلة من الأحداث التي لا سبيل لذكرها، يأخذ الخوار في ذهن الرجل قيمة كل صرخة أنثوية. هذه المشهدية المعقولة في السينما كانت لتصبح ممكنة على الخشبة مع القليل من التعديلات: مانيكان متحرك بدل البقرة، شبح لديه موهبة الكلام، أو إنسان متنكر بشكل دابة، لنعثر من جديد على شعر الطرافة الذي تبرأ منه المسرح وأفادت منه السينما.
ماذا عن الخطَر في المسرح؟ مخلوق عجيب من قماش ومن خشب، لا يلتفت لنداء أحد مخيف بالطبيعة، قادر أن يبث فوق المسرح نفحة من ذلك الخوف الماورائي العظيم الذي كان في صميم المسرح القديم. سكان جزيرة بالي مع تنينهم المخترع، مثل كل الشرقيين، لم يفقدوا معنى هذا الخوف الغامض الذي يعرفون جيداً أنّه يشكل أحد العناصر الفعالة (وبالتالي الأساسية) في المسرح. ذلك أن الشعر الحقيقي، شئنا أم أبينا، هو ميتافيزيقي، وحمولته الماورائية، هي ما تعطيه قيمته الحقيقية. المسرح الشرقي ذو الاتجاهات الماورائية مناقض للمسرح الغربي ذي الاتجاهات البسيكولوجية، وفيه كومة هائلة من الحركات والصوتيات والإشارات التي تشكل لغة الإخراج والمشهدية. هذه اللغة التي تطور تبعاتها الفيزيائية والشعرية في كلّ اتجاهات الوعي، وتحمل الفكر على أن ينحو منحى عميقاً في ما يمكن أن نسميه: الميتافيزيقا المتحركة.
الإلهام العظيم عند الشرقيين يكمن في أنه يعطينا فكرة فيزيائية لا لفظية عن المسرح، بحيث تكون حدوده هي كل ما يمكن أن يحصل على الخشبة، بشكل مستقل عن النص المكتوب، مقابل ما نفهمه في الغرب عن مسرح يرتبط عضوياً بالنص، ليجد نفسه محدوداً به. فكرة هيمنة النص في المسرح متجذرة في داخلنا بشكل عميق بحيث تبدو كل الأشياء، حتى الإخراج المسرحي، دونية أمام النص. إزاء هذا الخضوع للكلمة، يمكن أن نسأل أنفسنا إذا ما كان المسرح يمتلك لغته الخاصة، إذا كان ضرباً من الخيال أن نعتبره فناً مستقلاً وقائماً بذاته، مثل الموسيقى والرسم والرقص. في المسرح الشرقي طقوس كثيرة لا نمتلك مفاتيحها، يبدو وكأنها تنتمي لأحكام موسيقية شديدة الدقة، مع شيء إضافي لا ينتمي إلى الموسيقى، بل شيء وكأنه مخصص ليؤرق الفكر، لمطاردته، لقيادته في شبكة مستعصية وأكيدة. كل شيء في هذا المسرح محسوب بحرص رياضي رائع. لا شيء متروكاً للصدفة أو المبادرة الفردية. إنه نوع من الرقص الأعلى حيث الراقص، قبل كل شيء، ممثل على الخشبة. إنه مسرح ينفي الكاتب لمصلحة من نطلق عليه لقب المخرج في كلامنا الغربي المنمق عن المسرح. هذا الأخير يتحول إلى قائد اوركسترا عجيب، إلى سيد المناسبات المقدسة. المواد التي يعالجها، والثيمات التي يجعلها تخفق لا تنتمي إليه، بل للآلهة. مسرح الشرق أشبه بالفيزياء الأولى، التي لم تنفصل عنها الروح.

* من كتاب «المسرح وقرينه»، (Le Théâtre et son double)، «دار غاليمار» ـ باريس، 1938