كان خورخي لويس بورخيس قد ابتكر وصفة ناجعة في توصيف كتاب «ألف ليلة وليلة» بأنه «الليالي اللانهائية»، معتبراً أن الحكاية التي تلي «ألف» ستتوالد إلى الأبد بسرديات مختلفة، نافياً وجود نسخة واحدة من «الليالي». فلكل لغة تُرجم إليها الكتاب نسختها المختلفة، بدءاً من القرن الثامن عشر، حين ترجم أنطوان غالان الكتاب إلى اللغة الفرنسية، وسيعكف «مترجمو ألف ليلة وليلة» باللغات الأخرى على اختراع لياليهم الخاصة. ذلك أن غالان نفسه أضاف للحكايات الأصلية حكايات أخرى، كان رواها له رحّالة حلبي اسمه حنا دياب. في كتابه «كلام شهرزاد: مكونات السرد التراثي في ألف ليلة وليلة» (دار دال- دمشق)، يسعى نور الدين محقّق إلى تفكيك أشكال الحكي التي يزخر بها هذا النصّ التراثي المتفرّد والمنبوذ من المؤسسات الرسمية في صيغته الأولى. إذ جرى طمس بعض حكاياته، بالإضافة إلى دعوات بمنعه أو حرقه بوصفه «انزياحاً حقيقياً عن المسار التخييلي الرسمي، مؤسساً بذلك تخييلاً متمرّداً تشكّلت عناصر تكوينه انطلاقاً من الواقع الذي كانت تعيشه الفئات الشعبية التي ساهمت في تأليفه وصياغته وبلورته والتي جعلت منه نصّاً يتيماً لا ينتمي إلى أب معيّن يفرض عليه إطارات جامدة».

يركز الناقد المغربي على تحديد مفهوم الحكي وأشكاله في «ألف ليلة وليلة»، وتصنيف بعض أنساقه، وتحديد طبيعة وظائف السارد ووضعيته داخل الحكايات، بالاتكاء على أطروحات جيرار جينيت في هذا السياق. كما سيعتني بتحليل حكاية «الحمّال والثلاث بنات» تطبيقياً لدراسة الأنساق الحكائية التي اعتمدتها في بنائها العام، والتوغّل في بنيتها النصيّة للعثور على مفاتيح أبوابها السريّة، بالاتكاء على عدد من المراجع في نظريات السرد وتأويل الحكاية التي عمل عليها باحثون ونقّاد في قراءة «الليالي» مثل جمال الدين بن شيخ (الثقافة العربية وتغييب المتخيّل)، وعبد الفتاح كيليطو (الحكاية والتأويل)، وسعيد يقطين (القراءة والتجربة)، ورولان بارت (النقد البنيوي للحكاية). ويشير إلى أن «مبدأ الحكي» في «ألف ليلة وليلة» سببه أساساً «الخوف من الموت». ذلك أن شهرزاد اخترعت حكاياتها لإنقاذ عنقها من سيف شهريار كي تنسيه فعل الخيانة الذي يؤرقه، وإيقاظ رغبته بالإنصات إلى ما تحكيه لضمان خلاصها. فعدا رغبته في الاستماع إليها، «يصبح السرد بلا معنى وبلا جدوى»، وتالياً ستعتمد على شقيقتها «دنيا زاد» بتحريضها على رواية الحكايات «بالله عليك يا أختي حدثينا حديثاً نقطع به سهر ليلتنا».
هكذا انجذب شهريار نحو سحر الحكاية رغم صمته طوال كل هذه الليالي، ما جعل سيفه عاجزاً عن فعل القتل. هذا ما يخبرنا به السارد خارج الحكاية، عمّا كان يحدث داخل الحكاية، ذلك «إن هاجس الموت والحياة هو الذي يشكّل بؤرة الحكي هنا» أو كما يقول عبد الكبير الخطيبي «إحكِ حكايتك وإلا قتلتك». على هذا المنوال تتوالد سلسلة الحكايات في تحديد مصير شهرزاد «كل حكاية كانت تؤجل موتاً يومياً ينتظرها مع شروق الصبح». ولكن ماذا لو لم تجد شهرزاد ما تحكيه لشهريار؟ يقول تزفتيان تودوروف مجيباً عن هذا السؤال: «إنها ستعدم.
أجل ستُعدم». ولأن شهرزاد نجت من مصير الأخريات، نجا الكتاب أيضاً بخياله اللامحدود، وبأنساقه السردية المتوالدة عبر آليات التأطير والتنضيد والتتابع والتضمين والتناوب. أمام ثراء هذا النصّ، يدعو صاحب «الحكاية والبعد السردي» إلى استعادة هذا المخيال السحري واستثمار تقنياته وأساليبه وإعادة تركيبها ثانيةً وثالثة ورابعة.
تفكيك أشكال الحكي التي يزخر بها هذا النصّ التراثي المتفرّد والمنبوذ


ذلك أن كتاب «ألف ليلة وليلة» رغم عالميته «يبقى لصيقاً بنا، فلمَ لا نرجع إلى تربته ونغرس فيها شيئاً منّا، كما يفعل الآخرون؟». على مقلب آخر، يشير نور الدين محقّق إلى بعض النصوص الإبداعية والنقدية العربية التي استثمرت سرديات «الليالي» مثل «ليالي ألف ليلة» لنجيب محفوظ، و«ألف ليلة وليلتان» لهاني الراهب، بالإضافة إلى نصوص أخرى اعتمدت تقنية «الليالي»، كما في أعمال إميل حبيبي، وخيري شلبي، وخيري عبد الجواد. وفي باب الدراسات النقدية نقع على قراءات لطه حسين، وسهير القلماوي، وجابر عصفور، ومحمد برادة، وآخرين. ويختتم بشهادة لعبد الكبير الخطيبي يقول فيها «لقد أعدت قراءة معظم ترجمات «ألف ليلة وليلة»، وأود أن ألح على ضرورة قراءة بعض الصفحات العجيبة التي كتبها عن الحكاية كل من موريس بلانشو، ووالتر بنجمان، وتودوروف».
هذه القراءة لكتاب «ألف ليلة وليلة» تأتي من باب العشق في المقام الأول، إذ طالما ردّد هذا الأكاديمي المغربي شغفه بهذا الكتاب، وقد أجاب ذات مرّة في حوارٍ معه «الكتاب الذي تمنيت لو كنت قد كتبته هو كتاب «ألف ليلة و ليلة». فهذا الكتاب هو كتاب سحري يتشكل من عوالم عجائبية تتجاوز العادي حتى وإن انطلقت منه لتغوص في التخييلي في أبعد وأغور تجلياته. هو كتاب مستحيل أن يكتبه كاتب واحد، لأنه يتجاوز خصوصية الذوات ليعبر عن الوعي الجمعي في أبعاده الرمزية».
ويتابع: «ثم لأن هذا الكتاب ليس له كاتب معين، فهذا يعني لأنه كتاب للكل، الكتاب ليس العرب وحدهم وإنما كل الكتّاب شرقاً وغرباً. بالفعل لقد تمنيت وأنا بعد صغير لو كنت كاتباً لهذا الكتاب السحري الهائل».