تقديم وترجمة: عدنان محسنفي 1976، عبّر الشاعر السنغالي ليوبولد سينغور عن أسفه لنسيان المشرفين على جائزة «نوبل» مالكوم دو شازال (1902 ـــ 1981). وفي نهاية الأربعينات من القرن الماضي، كان أندريه بروتون يرى في المشروع الشعري لمالكوم دو شازال امتداداً للمشروع السريالي. ولم يكن حماس فرنسيس بونج وجورج باتاي وأندريه جيد وجان بولان وغيرهم أقل من حماس زعيم السريالية. وليس مبالغة القول إن صدور كتابه الحس التشكيليّ Sens Plastique عن «دار غاليمار» الباريسية في عام 1948 يُعد من الأحداث الكبرى في الحياة الأدبية الباريسية في وقت كانت الحركة السريالية تُراوح مكانها وتبحث عن نفس جديد. في ذلك الوقت، لم يتردّد جان بولان المشرف آنذاك على «غاليمار» وكاتب مقدمة الحس التشكيليّ في الإعلان عن ميلاد عبقرية شعرية وعن ظاهرة اسمها: مالكولم دو شازال.
ويحلو لماكولم دو شازال تقديم نفسه على النحو التالي: «كائنٌ صعب المِراس ويصعب العيش معه وقيادته مستحيلة، كائنٌ لا يُساس وغير مستعد للطاعة. كائن غير اجتماعي بالمرّة ويعيش بشكل متواصل في تعارض دائم مع المجتمع، يحبّ الناس ويكرههم في ذات الوقت».
نحن هنا أمام إنسان يعيش مثلما يحب وأمام شاعر يكتب على هواه. لا آباء له في الشعر رغم القرابة المفترضة التي وجدها نقّاد الأدب الفرنسي مع فرانسوا دو لا روشفوكو. على هذه الشاكلة، يجد القارئ عشرات الآلاف من الشذرات بعضها في سطرين، وأطولها في أربعين سطراً على مدى أكثر من ستين كتاباً شعرياً صدرت له حتّى عام وفاته.

وتبدو الصورة الشعرية عاديّة تارةً وصادمة طوراً، غير أنّها في جميع الأحوال مسكونة بهاجس خلق المدهش عن طريق المفارقة والدعابة حتّى بدا شعره كأنّه فهرسٌ للصور الشعرية المصاغة بلغة لا دور لها سوى دور الحامل للفكرة والمعنى، أي الرسم بالكلمات لخلق أدب جديد يختلط التشكيلي باللغوي فيه وهو ما يطلق عليه: الأدب-الرسم، حسب توصيف مالكولم دو شازال نفسه.
الشاعر ليس معنياً بما هو معروف في فن الشعر وقوانينه كالوزن والقافية والتشطير والإيقاع والهارمونية والوقف أو حتّى الكتابة النثرية. ولا يجد القارئ عنواناً واحداً لقصيدة واحدة في جميع دواوينه. الديوان بالنسبة له قصيدة واحدة تضع يدها على الحسيّ والنفسيّ والطبيعيّ، باختصار كلّ ما يتعلق بالإنسان وما يحيطه. وشِعره عبارة عن «فوق شِعر» Surpoésie، يختلط فيه العلم والفن والشعر وعلم النفس والميتافيزيقيا والروحي وحتّى الرب، بعبارة جان بـولان.
ولا يريد مالكولم دو شازال الحصول على إعجاب القارئ ولا يبحث عن رضاه، بل هو لا يبحث عن شيء بتاتاً. كلّ ما في الأمر، لديه ما يقوله ولا يتردّد في قوله، حسب جان بولان ثانية. فهو معنيّ بخلق قرائن، الغرض منها خلق نظام للمطابقات الكونية تجعل من أنسنة الأشياء والطبيعة وكلّ ما يحيط بالإنسان ممكناً. ولا يمكن أن يتمّ ذلك إلّا عندما يتعامل الشاعر مع الكلمات باعتبارها كائنات حيّة.
وتعتمد شذرات دو شازال على المفارقة وهي عماد، مثلما هو معروف، معمار وتقنية النصوص القصيرة لكنّه أضاف شيئاً آخر أراد منه تحرير الكلمة من سطوة الجملة والجملة من هيمنة العبارة وهذه الأخيرة من طغيان اللغة.

الطبيعة أجمل كتاب للصور. ولكن للأسف نتوقف عند الغلاف وحسب. وكي يتسنّى لنا تقليب صفحات هذا الألبوم العجيب، عليّنا أن يكون بوسعنا تقشير النباتات والأزهار والفواكه بالنظر مثلما نقشر البصل باليد أو مثلما نفعل بموسيقى أوركسترا نتذّوقها جزءاً جزءاً ونستبقيها في الأذن كاملة.
وهكذا، لمعرفة قدر الأزهار على نحو تام علينا أن نكون قادرين، وبالتناوب، على تذّوق حزوز الزهرة وخطوطها الزردية وبِركاتها الملوّنة الصغيرة وبذورها وزغبها وترقطها المطاطي ووميضها وظلالها ورسومها وأصيصها وديكورها ومشهدها ومنحدرها وكواليسها وتناسق ألوانها وانسجام أشكالها ومعمار ولوحتها.
ولكن من أجل تقشير زهرة بالنظر مثلما نقشّر البصل باليد، أليس من الواجب على المرء أن يعرف على الأقل وقبل كلّ شيء ابتكار مخططات للنظر؟
■ ■ ■

لمسات عنق الأغصان ولمسات فم الأزهار ولمسات بطن الماء ولمسات ورك الفواكه والأوراق: لغات رطبة.
■ ■ ■

ترى الأصابع في الليل مثلما تفعل القطط ولكننا لا ندرك هذا. وكي يتسنى لنا استقبال الرسائل الصوتية بأطراف الأصابع، علينا غلق العين المادية وفتح العين النفسانية، مثلما يفعل العميان.
■ ■ ■

يمشي المثالي على أطراف أصابع القدم ويمشي المادي على كعبيّ قدميه.
■ ■ ■

البذرة هي حقيبة يد النباتات.
■ ■ ■

ترضع أعضاؤنا أوردتنا مثلما يرضع الطفل من ثدي أمّه. الدم حليب خلويّ. الكائن البشري، إن كان طفلاً أو بالغاً أو شيخاً، يرضع أو يمضغ أو يزدري حساءه، فنحن نعيش من الولادة إلى الموت فيزيائياً من رضاعتنا لأنفسنا. عضويّاً نحن أطفال أنفسنا ونحن أمهاتنا. وفي اللانهائي من الأشياء وفي وحدتها وفي كليّتها، نحن نعيش من رضاعة الرب.
■ ■ ■

شعرت الزهرة بالريح فهزّت رأسها وانحنى الساق. مثل امرأة قد توافق على شيء ما برفضها.
■ ■ ■

اللذّة سباق كلاب الرغبة السلوقيّة، حيث يتساقط المتسابقون دوماً قبل الوصول إلى الهدف وقبل العثور على الفريسة.
■ ■ ■

الضحكة المفتعلة تُنقص من وزن الأسنان.
■ ■ ■

الأزهار مثل لوحة الموناليزا، من أينما نحدّق بها، تلاحقنا بنظرتها.
■ ■ ■

الزهرة هي ثدي وفم وفرْج في نفس الوقت. امرأة مكتملة. اتحاد الأقانيم الثلاثة.
■ ■ ■

لا تفقد الحيوانات فطرتها إلّا بعد تدجينها.
■ ■ ■

يحمل الرجل قلبه على قضيبه وتحمل المرأة فرجها على قلبها.
■ ■ ■

الأذواق المفرطة تتقاطع كلّها مع الذوق المرّ.
■ ■ ■

الفم محطة انطلاق الضحك والعين محطة وصوله. وبعد فترة طويلة من صمت الفم، ما زالت العين تضحك.
■ ■ ■

الكبرياء متعة الرقبة والاعتداد متعة الكُلية.
■ ■ ■

السمعُ مشاهدٌ يصفّق بعينيه.
■ ■ ■

الحمار الذي ينهق دوماً بأعلى صوته، هو أكثر الحمير أصالة. الحماقة دوماً صاخبة.
■ ■ ■

للشغف حياة قصيرة بدون شهود، حتّى روميو وجوليت كانا سيقيمان عائلة برجوازية في جزيرة خالية.
■ ■ ■

المرحاض جمهورية المؤخرات.
* ولد مالكوم دو شازال في جزيرة موريس عام 1902 من عائلة فرنسية كانت تسكن منطقة الفوريز، وهاجرت إلى جزيرة موريس عام 1763 أي بعد خمسين سنة من ضمّ فرنسا للجزيرة التي كانت تُعرف آنذاك باسم Isle de France. حصل على دبلوم الهندسة الكيمياوية من إحدى الجامعات الأميركية وبعدما عمل في كوبا لبضعة أشهر، قام برحلات سياحية إلى فرنسا وبريطانيا وسويسرا وعاد إلى جزيرة موريس عام 1925 ولم يتركها حتّى وفاته عام 1981. أثناء إقامته في الولايات المتحدة، كان وثيق الصلة مع جماعة دينية معروفة باسم Swedenborgienne تدعو إلى الإيمان عن طريق العقل. بين 1942 و1947، أصدر مجموعة من الشذرات بعنوان «أفكار» في سبع مجلدات. وفي 1947، أصدر كتابه الشهير «الحس التشكيلي» في جزيرة موريس» وعلى نفقته الخاصة أيضاً، وعادت «دار غاليمار» طبعه في باريس عام 1948، وكان هذا إيذاناً بتكريسه كأحد أهم شعراء اللغة الفرنسية في أواخر الأربعينات. وفي 1949، صدر له «حياة مِصفاة» (غاليمار)، وهو آخر كتاب يصدر له في فرنسا وهو على قيد الحياة. وبين 1950 و1954 أصدر أكثر من 30 كتاباً من الشذرات كان أهمها «حجارة الفلاسفة» و«كتاب الوعي» و«كتاب المبادئ»، و«إنجيل الماء». وفي عام 1968 أصدر كتابه المهم «قصائد في باريس»، وأُعيد نشره عام 2005. وبعد وفاته، قامت جمعية أصدقاء مالكولم دو شازال بجرد جميع أعماله التي صدرت وتبيّن أنّه أصدر 54 كتاباً في حياته وصدرت له ثمانية كتب بعد موته.

* من كتاب «مختارات شعرية» (دار سطور ـ العراق) الذي يصدر قريباً للشاعر والمترجم العراقي عدنان محسن