تعرفون الجدال الذي جرى طوال 1400 عام - وما زال يجري حتى الآن- حول آيتي سورة المدثر: «كأنهم حمر مستنفرة، فرت من قسورة» (المدثر: 50-51). وقد جرى الجدال بشكل خاص حول كلمة «قسورة» الغامضة التي وضعت اقتراحات عدة لفهمها. وقد اختصر لنا «لسان العرب» هذه المقترحات كما يلي:1- القَسْوَرة: الصيادون بالجمع، أو الصياد.
2- القسورة: الرماة
3- القَسْوَرَة: الأَسد
4- والقَسْوَرة: الشجاع
5- القَسْوَرة: أَول الليل، أو آخر الليل
6- القَسْوَرة: ضرب من الشجر
7- القسورة: رِكْز الناس، أي أصواتهم الخفية الهامسة.
7- القسورة: القاسي الشديد. والقَسْوَرَةُ من الغِلْمَانِ: القَوِيُّ الشابُّ
8- ثم لدينا باحث ألماني، من أصل عربي ما في ما يبدو، هو كريستوف لوكسنبيرغ دخل، هو الآخر، على خط القسورة في كتابه الذي أثار ضجة «القراءة السريانية- الآرامية للقرآن». فقد افترض أن القسورة هي كلمة «قاصورا» السريانية، وهي تعني «حمار هرم لا يُحمل عليه»، أي لا ينفع لحمل الأثقال، لكنها انحرفت وأصبحت «قاسورا» في السريانية الشرقية، ثم انتهت «قسورة» بالعربية (ص-ص 61-63 من الكتاب، النسخة الإنكليزية الصادرة عام 2007 عن: Verlag Hans Schiler, Berlin). بذا، فالحمرة المستنفرة فرت من حمار عجوز هالك. منظر هذا الحمار الهالك أخافها، من الموت ربما، وأخرجها عن طورها! وهكذا يكون هذا الباحث قد قدم تفسيراً هو أقل ملاءمة من جميع التفاسير العربية القديمة، أي إنه زاد الطين بلة.
هذه، بالمجمل، نتائج الجدال حول كلمة «قسورة» التي بدت غامضة جداً للقدماء، وظلت غامضة أيضاً عند المحدثين. وكما نرى، فما هو معروف فقط في الآيتين أن الحمر استنفرت وهربت من شيء ما. أما ما هو هذا الشيء، فغير مؤكد بالمرة. بناء عليه، فما الذي يمكن للمرء أن يضيفه إلى هذا الجدل المتراكم الذي لا ينتهي؟ هل سيضيف رقماً جديداً للأرقام أعلاه كي تكبر كومة المقترحات من دون أن تؤدي للعثور على حل؟
لكن محاولتي ستتجنب «القسورة»، محاولة الدخول إلى الآية من مدخل آخر، لم يحاوله أحد من قبل. أي أنني سأنيخ ناقتي تحت شجرة أخرى. والأمر كله يتعلق بمناخ الناقة. إن أنخت راحلتك في المكان الخطأ، فسوف تصل إلى النتيجة الخطأ. لذا سيكون مناخي عند كلمة «فرت» لا كلمة «قسورة». إذ أن لغز قسورة سيحل من تلقاء ذاته إذا ما تمكنت من حل أمر «فرت» بشكل مناسب. فاللغز يقع في الكلمة (البريئة؟) والواضحة «فرت» لا في الكلمة (الغامضة؟) قسورة. هذا يعني أنني أقترح أن الجدال لم يطل اللغز الحقيقي، وأن الأيدي كانت تغرق الباب الخطأ. فالتشوش الحاصل منذ عهد صدر الإسلام بشأن الآيتين راجع إلى القراءة المغلوطة، المصحِّفة، لكلمة «فَرَّتْ». أما غموض قسورة فعرض ثانوي لمشكلة «فرت».
الهرب أم اختبار السن؟
أما فرضي فيقول إن كلمة «فرّت»، يجب أن تقرأ بضم الفاء «فُرّت» لا بفتحها «فَرّت». وهذا يعني أن هذه الكلمة لا تعني الهروب والفرار، بل تعني اختبار السن والكشف عنه. ونحن نذكر جميعاً قول الحجاج في خطبته الشهيرة المخيفة: «ولقد فُرِرْتُ عن ذكاء، وفُتشتُ عن تجربة». والفرّ و الفرار و الفرارة هنا: «أن تفتح فم الدابة لتعلم سنها. يقال: فرّها فرّاً وفراراً، مثلث الفاء، إذا فتح فاها لذلك. ومنه قول الحجاج: ولقد فُرِرت عن ذكاء، وفُتشت عن تجربة، أي فُررت فوُجدتُ تام السن. فإن الذكاء يدل على السن» (اليوسي، زهر الأكم). أما «اللسان»، فيخبرنا أن الذكاء هو السن ذاته: «والذَّكاءُ: السِّنُّ. وقال الحَجَّاج: فُرِرتُ عن ذكاء. وبَلَغَت الدَّابَّةُ الذَّكاءَ، أَي السَّنّ» (لسان العرب). يضيف الصحاح: «وفَرَرْتُ الفرس أفُرُّهُ، بالضم، فَرّاً: إذا نظرت إلى أسنانه، قال الحجَّاج: فُرِرْتُ عن ذكاء. وفَرَرْتُ عن الأمر: بحثت عنه» (الجوهري، الصحاح). بناء عليه، فالحجاج يشبّه هنا نفسه بفرس جرى فرّه، أي فتح فمه للتعرف على سنه، فتبين أنه بلغ سن النضوج التام.
انطلاقاً من هذا، فإن الآيتين القرآنيتين تقولان ما يلي: كأنهم حمير مستنفِرة، أو مستنفَرة، لأنها فُرّت، أي فتحت أفواهها قسراً لمعرفة سنها، من قبل قسورة، أي من قبل رجل شديد قاسي اليد. استنفارها نابع مع عملية الفرار من قبل هذا الرجل القاسي. وبهذا التفسير يصبح واضحاً معنى الآيتين في سياق الآيات التي تسبقها وتلحقها:
«فما لهم عن التذكرة معرضين. كأنهم حمر مستنفرة. فرت من قسورة. بل يريد كل امري منهم أن يؤتى صحفاً منشّرة. كلا بل لا يخافون الآخرة. كلا إنه تذكرة. فمن شاء ذكره. وما يذكرون إلا أن يشاء الله هو أهل التقوى وأهل المغفرة» (سورة المدثر، 49- 57).
فقد أعرض المشركون عن الدين الجديد وعن القرآن، الذي هو تذكرة، وليس كتباً مكتوبة مسبقاً، كما لو أنها حمير استنفرت، وأعرضت بوجهها وأعناقها، لأن هناك من فَرّها قسراً بعنف وشدة، أي فتح أفواهها، وفصل فكيها عن بعضهما كي يتخبر سنها وعمرها. عليه، فالتذكرة، أي القرآن، بدت كما لو أنها عملية فرّ لهم، فاستنفروا كما تستنفر الحمير المفرورة. بذا، فكلمة «قسورة» أتت على المعنى الرئيس لجذر «قسر»، وهو معنى القسر والإكراه: «القَسْرُ: القَهْرُ على الكُرْه. قَسَرَه يَقْسِرُه قَسْراً واقْتَسَرَه: غَلَبه وقَهَره، وقَسَرَه على الأَمر قَسْراً: أَكرهه عليه» (لسان العرب). ومن خبر على الحقيقة كيف يزعج الحمير، والدواب عموماً، أن تقسر فتح أفواهها لمعرفة سنها، يمكنه أن يفهم التشبيه الموجود في الآيتين جيداً. فهي تميل بأعناقها بقوة محاولة تجنب التجربة غير المفرحة. كما أنها تطبق أفواهها محاولة عدم السماح بفتحها عنوة.
تعرّضت الآيتان لسوء فهم عميق بعدما تعددت اقتراحات معنى «قسورة»


من ناحية أخرى، فقد اخترنا أن نفهم كلمة «مُنشّرة» في تعبير «صحفاً مُنشّرة» على أنها تعني ببساطة: صحفاً مكتوبة. ذلك أن القرآن لم ينزل كصحائف مكتوبة، كما كان الأمر مع ألواح موسى التي كتبت على الحجر، بل نزل كلاماً متلواً، ثم نشّر، أي كتب، بعد ذلك، وصار صحفاً مكتوبة. نعرف بالطبع أن هناك من اقترح معاني أخرى كثيرة للجملة، لكن يبدو لنا أن هذا هو المعنى المقصود في الحقيقة. فالمشركون كانوا يريدون أن ينزل القرآن من السماء عليهم مكتوباً، هكذا مباشرة، كي يؤمنوا به. فنزوله مكتوباً من السماء، هو الدليل الأكبر على صحة مصدره. تأييداً لهذا، جاء في «اللسان»: «وفي الحديث أَنه قال: فلعل طَبًّا أَصابه، يعني سِحْراً، ثم نَشَّره بِـ: قُلْ أَعوذ بربّ الناس، أَي رَقَاهُ؛ وكذلك: إِذا كَتب له النُّشْرة» (لسان العرب). بذا فالنُّشرة هي الرقية المكتوبة كتابة. ومنه التناشير، أي صحف الأولاد في الكتاتيب: «ابن سيده: والتَّناشِير: كتاب للغِلمان في الكُتَّاب، لا أَعرِف لها واحداً» (لسان العرب).
هذا الفهم للآيتين يوضح إلى أي حد كان التشبيه القرآني مهيناً للمشركين، فهم قد أعرضوا عن القرآن، واضطربوا لنزوله كما تضطرب الحمير التي تُفتح أفواهها قسراً من قبل يد قاسية عنيفة لكي يكشف عن سنها. لقد كان القرآن إذن نوعاً من الاختبار لنضوجهم وحكمتهم. وهم قد فشلوا في هذا الاختبار القاسي.
بناء على كل هذا، فالآيتان لا تحويان أسوداً ولا صيادين ولا آلتهم الهجومية، كما أنهما لا تتحدثان عن حمير وحشية، بل عن حمير أهلية. وبذا فإن معاني «الصياد، الرامي، حبال الصيد، الأسد» لكلمة «قسورة» ليست أصلية في اللغة العربية، بل هي معاني جرى افتراضها، من دون دليل كاف، لفهم الآيتين اللتين تعرضتا لسوء فهم عميق.
* شاعر فلسطيني