اختار عبد الوهاب البياتي وأدونيس والآخرون طرقاً أخرى لمساوقة الحلاج. ولا يمكن التأكد من الحق في استخدام «المساوقة» للدلالة إلى طريق الشعراء لمواساة الحلاج. وينسحب الأمر نفسه على فِعل المساواة. كل ما نعرفه هو علاقة الحلاج بالحق وعلاقة التصوف بالوجود. ورغم الانقطاع الزمني بين شعراء كبار كأدونيس والبياتي، مع حسن نصور، صاحب «خزائن» (دار النهضة العربية، 2017)، فإن الأخير اختار التصوف كأداةٍ للشِعر. وقبل أن يبدو الوصف فضفاضاً، لا بد من شرح طويل. يجب إخضاع هذه النصوص لاعتراضات تتجاوز اعتراضات صاحبها وتسليمه، ويجوز أيضاً أن تُنتهك. يصح في قراءة «خزائن» ما يصح في النص الصوفي ــ وهذه نقطة يجب العودة إليها ــ ويعني ذلك استمالة النص من القارئ، ثم الانقضاض عليه، قبل أن تؤدي البنيوية إلى تفكيكه. لشدة تماسكه لا يمكن السماح لهذا النص بالإفلات. إنها «خزائن» أكبر من اسمها، وهذه ميزة الوجود عموماً، أنه أكبر من نفسهِ. نصوص نصور تحمل بعداً وجودياً على منهج ابن عربي كما أراده صاحبها، ما يجعلها تحمل أكثر من معناها نفسها.
وهذه هي نقطة قوتها، أو النقطة التي تنطلق منها وتدور حولها، ثم تنتهي في مكان عميق ومجهول. «خزائن» عائمة في فراغ يفيض من شدة امتلائه بالفراغ: «(...) لا تريان/ غير تفتح المعنى/ على قلب الإله المستدير/ كوجهه في الماء/ في المرآة».

النص متماسك لدرجة يستحال فيها تحديد المعنى، ولهذا تفسير «صوفيّ» أيضاً. فإن كان الله هو الحق، والحق هو الحق، فالنص هو النص، والمعنى هو المعنى، يلتقيان بلا تعرجٍ حتى يستويا: «تنقدحان في سور الكناية/ مثل قافيتين/ نابغتين/ عائمتين في الأنغام/من فرط التوازن/ تحت/ عرش/ الله». التعامل مع النص الصوفي عادةً لا يتم من الخارج. ولا يمكن النظر إلى المُخاطِب إلا من داخله، فالصوفية تكونت تكويناً خاصاً، ولا يمكن النظر إليها إلا عبر نسقها الإبستيمولوجي. لكن ما يقدّمه حسن نصّور هو «نص صوفي» وليس تصوفاً. وفي استواء فهم النص والفِعل، يصير المزج بين الحدَثين ممكناً. ذلك أن التراصف الميتافيزيقي الذي قد يشكّل خطاباً صوفياً، ثري بحدِ ذاته في الرموز والدلالات، ولكنه لا ينبغي أن يكون سراً، أو يثير الأسئلة، وإلا تعرض لقراءة بنيوية تلقي بهِ في محرقة الميثولوجيا. وإن كنّا نتعامل مع النص الصوفي الذي بين أيدينا بوصفه شِعراً نثرياً تقليدياً، فذلك سيغرقنا في «نون» صاحِبه وطريق الإله إلى الوجود وطريق الوجود إلى الإله، وبالماء نفسها.
وهذا ليس عادلاً. فالنصوص تحاول، أو النص يحاول، بما أنه حسب صاحبه واحداً وإلا ما كان موجوداً، تفادي المزج الشائع بين الميثولوجيا بوجهها الطقسي وبين التوجه الفلسفي للتصوف. ذلك أن الفلسفة نفسها ما انفكت تحاول التخلص من الأبعاد الميثولوجية التي تُلصق
بها.
نحن أمام نصٍّ، يبدو للوهلة الأولى، وكأنه يستعير المفردات مع عدتها الدلالية كاملةً، من معجمها الصوفي المُذهَّب، ويحاول تظهيرها بمظهرٍ المتصوف. ولكن من زاوية أخرى، وبعد قراءة أكثر تأنياً، نجد أنفسنا أمام  «إطار صوفي» رُصِّع النص بداخله، فصار الإطار هو القصيدة، وذهب النص إلى المعنى أكثر من صاحبه: «أفتح هذا الليل بعيني الطافيتين على الدار/ وأبكي/ نبكي». وتلك ليست سوى محاولة أخرى لإدراك الوجود بالقلب، مِن شأنها أن تقفل الباب على جميع الأسئلة عن وجودية النص الذي أمامنا. وإن كان الإدراك بالنص ممكناً، كما هو ممكن بالقلب، وبما أن الأسئلة يمكن أن تبقى خارج الباب، فإن الالتفاف خلف الباب ممكن أيضاً: «(...) لا تريان غير الآن /تنجذبان».
هل يمكن القفز فوق سور الميتافيزيقا؟ سؤال آخر يطرحه النص على نفسهِ، إذا اتحد قارئه معه. ولا إجابة، فالإجابة خطيئة. ولعل هذا هو أكثر ما يميّز النوافذ المفتوحة على التصوّف، بصيرة الأسئلة، وعدمية الإجابات، ما يعيدها إلى موقع محبب، أي إنها مادة تصلح للشِعر أكثر من صلاحِها لتأسيس نظريات عن الوعي.
بُعد وجودي على منهج ابن عربي


الآخرون سلكوا طرقاً أقل صعوبة وأكثر قدرةً على الإبهار. وهنا يحضر إلى البال، ربما، البياتي، بصوفيته المشبعة بمفردات غير منقطعة عن زمنها، حين يخاطب بابلو نيرودا قائلاً: «كان الشعراء يطبخون الموت والطيور في رؤوسهم وكنت في الجبال أصطاد لك الفراشة ــ الوعل ــ الغزال ــ القمر».
يتوجب الانتباه إلى أن «نص صوفي» منقطع فيلولوجياً عن راهنهِ، ولكن ما يردم هذه الهوة هو إصرار الكاتب على بناء قصائد متعالية، قصائد تُنشِد التعالي، عندما يرتقي بلغتهِ إلى مصاف الوجود، ويخرجها من دفتر الشّعر الضيق. وإن كان الوجود نهراً، فذلك يعني أنه ماء طريّ مطواع، يتدفق بين أسطر «النص الصوفي» كما أراد لنفسه. ولكن ذلك يعني أيضاً أنه يمشي باتجاه واحد، وأن «النص الصوفي» لن يكون الأخير، بل يتوجب على نصور أن يتابع البحث عن نفسه في رحمِ نصِه.