بين الحياة والموت أسعى، على الحدّ الفاصل من نهايتهما أصولُ وأجولْ، أستخدم المفردات وأنا في المعركةِ، معركتي الشخصيَّة مع الأشياء التي حولي، الأشياء التي تبقى كما هي منذ انبلاج الفجر وحتى نهاية اليوم، أنهارُ على مقعدي، أو ربمّا أمنحُ ذاتي غفوةً شبه أخيرة، لا أشكّ في الموت/ كما ولا أشكُّ في الحياةِ كذلك، الأمران سيّان وأنا أعدُّ العدَّةَ للنوم الأخير، أصافح الأمس، وأبصقُ على الغد، أمّا اليومَ فأداعب خصلاتهِ المبعثرةِ الضخمة. أقولُ في سرّي: علّه يهمدُ هذا الموت، أهدهدهُ كطفلٍ، أبتسمُ له وأحاولُ أن أُضحكَه، فلا يبدو عليه شيء، متجهَّمٌ وقبيحْ!
■ ■ ■

الحركةُ الثانية في صعود دَرَجِ الوصول إلى المنزل، البابُ مُحكَمُ الإغلاق، ثمّة من يهذي في الداخل، شبيهي الذي يبقى حبيسَ الغرفةِ يتوجّسُ الناسَ، يعدّ أنفاس من كانوا في أحشاء الغرفة ليلة أمس، يظلّ يسرُد على الغائبين وللغائبين أوصافَ الحروب، أصنافَ المعارِكِ، ويقلّدُ أصوات الموتى وحركاتِهِم حينَ كانوا أحياءَ قبل هنيهَةٍ، يشرُدُ بُرهَةً قبل أن يستعيدَ عافيته ليعاودَ المهزلَة. أحدّثهُ عن غرفةِ المريض الذي فقدَ ساقَهُ في الحرب وعن عطرٍ ما في الأنحاء كأنثى حقيقيَّة تتجوَّلُ، فيحدّثني عن الصداقة، أكلّمهُ في شؤون الحرب، يكلّمني في شؤونِ الغَد، ألتزمُ الصمت والموتَ وأجعلني شبيهاً بهْ!
■ ■ ■

تتلاشى الحياةُ بأكملها، ويغدو العالمُ في سريري، للحظةٍ أرتابُ في الأمر، لعلَّ خطباً ما قد حدث؟!، تبتسمُ الجارة الضخمة المتكاسلة في مشيها نحو حانوتٍ حقير وهي تظهر أمامي جليَّةً، أغفو، أستيقظ، أبكي، ومن ثم أعتدل في جلستي، أحاولُ تذكّرَ موت أبي! فتنتابني الضحكةُ العميقة بداخلي، أحاول إخفات الصوت، إخمادَ حريقٍ ما في الداخل، أفشلُ يا أمّي، أقولُ «أمّي» لأُسكِتَ الوجع بداخلي.

«وحدة» للأميركية نيكول ماثيو (زيت على خشب ـ 2015)

غربانُ النار
ليسَ بمقدوري فعل شيء، طوالَ اليوم وأنا أسيرُ في الدائرةِ ذاتها، أنكسرُ وأعيدُ ترتيب ذاتي لئلّا أبقى في الدائرةِ، لكن عبثاً أحاولُ الخروجَ، أُخرِجُ رأسي كخلدٍ فترتطمُ بفوارغ الرَّصاصِ، أتلعثمُ أمام ذاكرتي وهي تستعيد نفسها وعافيتها، أضغط الزِناد فأتذكّر ما يمكنُ أن يجعلني أتمنّى العمرَ المَديد!
على المقبرةِ يوبّخني الحارسُ: - عشر سنواتٍ لم تزُره؟!
أقولُ: الموتى لا يتذكّرون، وأنا ساهٍ عمّا قاله قبل هنيهةٍ، أتفرّجُ على الرخام، أثبِتُ لذاتي أنّ الرّخام أرحمُ الآنَ.
أبي إن كنت تسمعني، فقل لي... سألتُ...
■ ■ ■

هَجَرَنَا الرِّيفُ، وَهَجَرَتنَا الأنحَاءُ، يبابٌ كل ما نعيشهُ، وكأيّ طفلٍ يتوهّمُ مرونةَ الأشياء بفعلِ اليانسون المغليّ، تغدو الأشياءُ في نظري كمثل لذةٍ أولى.
كم رقّقتنا الأشياءُ يا أمّي، نبكي في حضرةِ القبر الغريب، ونفرحُ في حضرة الطفل الرضيع، نشتكي الحيرةَ،
لا نملُّ العجزة وهم الغارقُون في السردِ الهُراء، نبتسمُ لهم برقَّةٍ، وبليونةٍ نشدُّ من أرواحهم زمامَ التذكُّرِ المفاجئ.
لم يتركوا لنا شيئاً، أفرَغوا غُرفَ المنازلِ، ونادوا في مكبّراتِ الصوت: إنّ السيلَ جارفٌ، والغاباتُ تغرقُ، فانهضوا.
■ ■ ■

تبكي لأنّ شخوص الروايات يموتون قبل أوانهم، تضعُ الكتابَ/ الحياةَ جانباً، خَدَرٌ كحلمٍ وسيمٍ يسري في مخيّلتك، ترى الأشياء باهتةً وكأنّ الأمس قريبٌ منك وبمقدورك صفعهُ وأنتَ تبتسم أو ربمّا تدندنُ لخيالكَ الثرثار.
تكرهُ التلفاز والأواني الفخاريَّة، لأنّ كليهما عُرضةٌ للكسرِ أو البصق! في هذهِ الأثناء تمرّ الحكاياتُ من شقوق المنزل الطينيّ، كأشباحٍ تمرُّ، تَشعرُ بها تدغدغكَ محاولةً استنهاضَك من خوفكَ النائم في سنيّ حياتكَ الأوُل، تتذكّرني أيَّها الخاملُ كشتيمةٍ غير متقنةٍ.
طريقكَ طويلةٌ كــ «أذنيّ الحمارِ» في الحكايةِ القديمَةِ! تضحكُ للتشبيهِ مدوَّناً على ورقِ التبغ الأبيضِ، ككتابةٍ على جدارْ تمحوها الأمطارُ وشعاعُ الأعين الكثيرةِ التي تبصرها رواحاً ومجيئاً.
على الرصيفِ الأنيق، بجسارةٍ تركتَ يدكَ اليمنى تربت على أكتاف المارَّةِ وهم غارقونَ في وحلِ الحرب، أحذيتهم اهترأتْ، أرواحهم كذلك، وفوقهَم بقليلٍ تحومُ الغربانُ التي تخفي بين أجنحتها ناراً.
*من «كتاب الأشياء» الصادر لدى «دار التكوين» بمنحة من «مؤسسة المورد الثقافي للعام 2018»