إلى جانب جان جينيه (١٩١٠ ـ ١٩٨٦) بنصه المذهل (أربع ساعات في شاتيلا) الذي يبدو كأنه كُتِب بالدم، وقف جيل دولوز (١٩٢٥ ـ ١٩٨٥) دون مواربة في صف الشعب الفلسطيني وحقه في الوجود، مفنداً الكليشيهات الصهيونية حول معاداة السامية، ومقولة «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»، وخلق «الإرهابيين الافتراضيين» كأعداء لمعسكر تديره الولايات المتحدة وإسرائيل وأعوانهما. شرح الميكانيزم الرأسمالي في السيطرة والتحكم (Command and Conquer)، حيث تبدو إسرائيل صفحة من التاريخ الأميركي الإمبريالي نفسه. العقل اللامع في تاريخ الفلسفة الذي أنتج نسقاً فلسفياً خاصاً يتناول ميادين متعددة كالأدب والسينما والسياسة والتحليل النفسي، خصّ القضية الفلسطينية بمقالات ثلاثة في كتابه «نظامان للمجانين» (دار مينوي ــ باريس ــ ١٩٨٣) على امتداد حوالى عشرين صفحة، في مقابلة طويلة مع الياس صنبر بعنوان «هنود فلسطين الحمر»، ومقالين اثنين بعنوان «عَظَمة ياسر عرفات» و«المزعجون». لفتة قلما اختص بها فيلسوف فرنسي بحجم دولوز، وكنا قد تناولنا في مقال سابق بعنوان «الخيبة المريرة» حسرة إدوارد سعيد على موقف فلاسفة فرنسا الكبار كسارتر وفوكو من دولة إسرائيل. في ما يلي ترجمة لمقتطفات من مقالي دولوز حول فلسطين تترجم للمرة الأولى إلى العربية.
علي شباني

القضية الفلسطينية هي أولاً مجموع المظالم التي تعرَّض لها هذا الشعب ولما يزل. هذه المظالم هي أفعال العنف، لكن أيضاً التفاهات والمغالطات، والضمانات الخاطئة التي تدَّعي مكافأة هذه المظالم أو تبريرها. لم يكن لعرفات أن ينطق بسوى كلمة واحدة حول الوعود الكاذبة، والتعهدات المنتهكة، لحظة وقوع مجازر صبرا وشاتيلا: «العار، العار».
يقال إنها ليست بالإبادة الجماعية. لكن مع ذلك، إنه تاريخ يحوي أكثر من «أورادور» 1، منذ البداية. الإرهاب الصهيوني لم يقتصر على الإنكليز، بل على قرى عربية كان يجب أن تختفي من الوجود. عصابات الإرغون كانت في غاية النشاط في هذا الصدد: من ضفة إلى أخرى، كان يجب التصرف كما لو أن الشعب الفلسطيني، ليس فقط لا يستحق البقاء، بل كأنه لم يوجد قَط.
الغزاة هم من أولئك الذين عانوا بأنفسهم أكبر إبادة في التاريخ. هذه الإبادة التي جعلها الصهاينة مرادفاً للشر المطلق. لكن تحويل الإبادة الأكبر في التاريخ إلى شرٍّ مطلق هي رؤية دينية وصوفية، وليست بالرؤية التاريخية. إنها لا تقضي على الشر. على النقيض، إنها تبثه، إنها توجهه نحو أبرياء آخرين، إنها تلتمس جَبراً للضرر يجعل هؤلاء الأبرياء يعانون ما عاناه اليهود بأنفسهم (الطرد، العيش في الغيتو، الاختفاء كجماعة). بوسائل أكثر «برودة» من الإبادة، يراد الوصول إلى النتائج ذاتها.
أوروبا والولايات المتحدة مدينتان لليهود بجبر الضرر، ليتم إلقاء هذا الدين على شعب أقل ما يمكن أن يقال إنه لا دخل له البتَّة بهذه المسألة، وبريء بالكامل من أي هولوكوست، ولم يكن قد سمع عنه حتى. من هنا تحديداً بدأت البشاعة، وكذلك العنف. الصهيونية، ومن بعدها دولة «إسرائيل» تطالبان بأن يعترِف بهما الفلسطينيون، لكنهما ما انفكتا تنكران أي وجود لشعب فلسطيني. لا يدور الحديث مطلقاً عن فلسطينيين، بل عن «عرَب فلسطين»، كأنهم وجِدوا فوق هذه الأرض من قبيل الصدفة أو الخطأ. ولاحقاً، سيتم التصرف كأن الفلسطينيين المطرودين أتوا من الخارج، ولن يتم الحديث عن حرب المقاومة الأولى التي قاموا بها وحدهم. سيتم تصويرهم كأحفاد لهتلر، لأنهم لا يعترفون بحق إسرائيل في الوجود، لكن إسرائيل تحتفظ لنفسها بحق إنكار وجودهم بحكم الواقع. هنا بالضبط يبدأ نوع من الحيلة، ينتشر أكثر فأكثر، ويثقل على قلب كل المدافعين عن القضية الفلسطينية. هذه الحيلة، رهان إسرائيل، تقضي بأن يوصم بتهمة «اللاسامية» كل من يحتج على شروط الأمر الواقع وممارسات الدولة الصهيونية. هذه العملية تجد أصولها في السياسة الباردة التي تنتهجها إسرائيل تجاه الفلسطينيين.
لم تُخفِ إسرائيل هدفها قَط، منذ البداية: خلق الفراغ فوق التراب الفلسطيني، أو لنقل بشكل أفضل، تصوير الأرض الفلسطينية كبقعة خالية منذورة للصهاينة منذ الأزل. الأمر يتعلق هنا بالاستيطان بشكل واضح، ولكن ليس على شاكلة الاستيطان الأوروبي في القرن التاسع عشر: لا يتم استغلال سكان البلاد، بل يتم طردهم. أولئك الذين يبقون، لن يتم التعامل معهم باعتبارهم يداً عاملة متعلِّقة بالأرض، بل أشبه بيد عاملة هاربة ومُلحقة، كأنهم مهاجرون قد تَم حشرهم في غيتو. منذ البداية، إنه الشراء المنظّم للأرض، شرط أن تكون خالية من سكانها أو قابلة للإخلاء. إنها إبادة، لكن حيث يكون الإعدام الجسدي مستبدلاً بالإجلاء الجغرافي: كونهم عرَباً بشكل عام، الفلسطينيون الناجون عليهم أن يذهبوا ليذوبوا مع العرب الآخرين. الإبادة الجسدية، سواء تم الإلقاء بها على عاتق مرتزقة أو لا، هي حاصلة بامتياز. لكنها ليست إبادة، يتم القول، لأنها ليست «الهدف النهائي»: بالمحصلة، إنها وسيلة من الوسائل. تواطؤ الولايات المتحدة مع إسرائيل لا يأتي حصراً من سطوة لوبي صهيوني. لقد أوضح الياس صنبر 2 بشكل جيد كيف أن الولايات المتحدة تتعرف في إسرائيل على جانب من تاريخها: إبادة الهنود الحمر، التي، هنا أيضاً، لم تكن إلا بشكل جزئي إبادة جسدية مباشرة. يتعلق الأمر بخلق الفراغ، كأن الهنود الحمر لم يوجدوا كذلك، إلا ضمن نوع من الغيتوات جعلتهم نوعاً من مهاجري الداخل. من جوانب متعددة، يبدو الفلسطينيون نسخة جديدة من الهنود الحمر، إنهم الهنود الحمر لإسرائيل. التحليل الماركسي يحدد العمليتين المتكاملتين للرأسمالية: أن تضع بشكل ثابت لنفسها حدوداً، بحيث تتكيف هذه الرأسمالية ضمن هذه الحدود وتتحكم وتختبر منظومتها الذاتية. العملية الثانية هي تخطي تلك الحدود والسيطرة. هذا هو دأب الرأسمالية الأميركية، والحلم الأميركي، الذي اعتنقته إسرائيل وحلم إسرائيل الكبرى فوق الأرض العربية، فوق ظَهر العرب.
كيف تعلَّمَ الشعب الفلسطيني أن يقاوم؟ وها هو يقاوم الآن. كيف تحول من شعب عشائري إلى شعب فدائي؟ كيف أعطى لنفسه تنظيماً سياسياً لا يمثله ببساطة لكن يتقمصه، وهو خارج التراب ومن دون دولة: كان لا بد من شخصية أسطورية عظيمة، من وجهة نظرنا نحن الغربيين المنبثقة من شكسبير، هذه الشخصية كانت عرفات. ليست هذه المرة الأولى في التاريخ (يمكن للفرنسيين أن يستذكروا «فرنسا الحرة» مع ملاحظة فارق مهم يتعلق بأنها في بداياتها كانت تمتلك جماهير أقل). يتشبث الإسرائيليون بهذه الطريقة الدينية في رفض، ليس فقط الحق، وإنما الفعل الفلسطيني. كانوا يغتسلون من إرهابهم الذاتي باتهام الفلسطينيين بأنّهم إرهابيون قدِموا من الخارج. وتحديداً لأن الفلسطينيين لم يكونوا كذلك، بل شعب له خصوصيته التي تميزه عن غيره من الشعوب العربية، كما هي حال الشعوب الأوروبية في ما بينها. لم يكن هذا الشعب لينتظر من الدول العربية إلا عوناً ملتبساً، كان ينقلب أحياناً إلى نوع من العدائية والإبادة، حين يصبح النموذج الفلسطيني خطراً على هذه الدول. لقد عَبَر الفلسطينيون كل دوائر الجحيم تلك من التاريخ: سقوط الحلول كلما لاحت في الأفق، ارتدادات التحالفات التي دفعوا ثمنها، والوعود الرسمية التي لم يلتزم بها أحد. ومن كل هذا، كانت مقاومتهم تتغذى.
قد يكون أحد أهداف مجازر صبرا وشاتيلا الهزء بعرفات الذي لم يكن ليقبل بمغادرة المقاتلين، ممن لم تمس قوتهُم العسكرية، إلا بشرط تأمين سلامة أسَرِهم من الولايات المتحدة، ومن إسرائيل نفسِها. بعد المجازر، لم توجد كلمة لتقال سوى «العار». لو أدت الكارثة التي لحقت بمنظمة التحرير الفلسطينية، على المدى القصير أو البعيد إلى الاندماج في بلد عربي آخر أو الذوبان في التطرف الإسلامي، لكنّا سنقول إن الشعب الفلسطيني اختفى بشكل فعلي. على الجملة الاستعلائية لإسرائيل «لسنا كغيرنا من شعوب الأرض»، ستظل تجيب صرخة الفلسطينيين، التي ظهَّرها العدد الأول من «مجلة الدراسات الفلسطينية»: نحن شعب كغيرنا من شعوب الأرض، ولا نطالب بسوى ذلك!

المراجع:
Gilles Deleuze: Deux régimes de fousـ Textes et entretiens, 1975-1995,Edt de Minuit, 2003, 2eme edt.
1 أورادور: قرية فرنسية ناحية ليموج، ارتكبت فيها القوات النازية مجزرة مروعة عام ١٩٤٤
2- مقابلة مع الياس صنبر في الكتاب نفسه بعنوان: «هنود فلسطين الحمر»