عاد سليماني من عمله وهو يحس بالتعب والانهاك، إثر يوم شاق طويل في معمل النسيج الذي يشغل فيه منصب مدير شؤون الموظفين والإنتاج، عبر مسيرة عمل طويلة بالشركة، منذ أن عُيّن موظفاً صغيراً في المعمل حتى ترقيته لهذا المنصب عن استحقاق وجدارة.لكن هذا لا يعني أن قسماً غير قليل من الموظفين قد استبد بهم الغضب والاستياء وهم يطالعون القرار، مستندين لرأيهم القائل بأن المدعو سليماني هذا جدير بالشفقة، ويتوجب عرضه على طبيب نفسي مختص. هذا رجلٌ يكره حتى نفسه!
وقلما نجا أحد من توبيخاته، أو قمعه، أو الحسم من راتبه، أو أوامره التي لا تنتهي.
فهو يوصف بالتشدد إزاء أية هفوة تبدر من الموظفين والموظفات أثناء العمل.
يقف كل صباح أمام باب الشركة يترقب وصولهم بصبر لا ينفد، يسجل بنفسه المتأخرين والمتغيبين بلا إجازة مسبقة، على رغم وجود مراقب الدوام الذي يقيّد الأسماء في سجل طويل. لكنَّ الأمر لا يتوقف هنا، بل يمتد كدرب طويل يتسع باستمرار. ثمة «بصمة إلكترونية» تم استحداثها أخيراً في المعمل رُكِبَت في مدخله. وهذا كله لم يقنع سليماني بالتوقف عن مراقبة الموظفين والعاملين والكف عن مضايقتهم، كما لم يكتفِ باللوحة الهائلة التي أمر بنصبها عند مدخل المعمل: «تُغلق البوابة الخارجية عند الساعة السابعة والنصف وخمس دقائق، ومن يتأخر لن يتمكن من الدخول ويُحْتَسَب متغيباً»!
لا يتذكر العاملون والعاملات بأن رأوه يبتسم أو يقهقه، حتى لو كان هذا من أجل نكتة، بل ثمّة كتلة متناهية الصغر تعلو حاجبيه سرعان ما تتمدد وتكبر إثر تجهمه وتكشيرته الدائمة.
في العديد من المناسبات، يتدخل بلباس الموظفين ذكوراً وإناثاً، وبالهيئة التي يحبون أن يظهروا بها. هناك تعليمات لا يُمكن تجاوزها لمن يريد أن يعمل ويستمر في عمله.
بالنسبة للإناث، يُمنع إطالة الأظافر وتلوينها، كما لا يجوز ترك الشعر منساباً فوق الأكتاف، يقول: «لا يمكن ارتداء ملابس تلفت الانتباه»، مشدداً على أن هذا يقلل من الإنتاجية، ويدعو لقلة الحياء بين الموظفين والموظفات، ويعرِّض المسؤولين للمساءلة والمحاسبة من قبل المدير العام للمعمل!
أما بالنسبة للموظفين الذكور، فهناك قائمة طويلة عريضة من التعليمات والبنود لا يمكن مخالفتها أو تعديلها، ما دام سليماني هذا ما زال على رأس عمله: يمنع إطالة الشعر، يتم حلق الذقن يومياً. كما يُمنع التدخين أثناء العمل وداخل المكاتب، ومن يرغب فليدخنْ في الهواء الطلق، مقابل البوابة الرئيسية، أثناء استراحة نصف الساعة.
كثيراً ما كان يفاجئ العاملين بالظهور ورصد ما يفعلونه وما تم إنجازه وما تبقّى بعد، الأمر الذي كان يجعلهم في حالة ارتباك وتوقع من ظهوره المباغت.
وأحياناً يقوم بإلقاء كلمة مطولة تدعوهم لرفع كفاءتهم ومستوى انتاجيتهم، حيث أنه ينتظر منهم أفكاراً مبدعة، وتطلعاً لوصول المعمل مصاف المصانع الرائدة والناجحة في المنطقة، بل والعالم بأسره.
نسيت أن أذكر الهاتف: على العاملين جميعاً إغلاق هواتفهم النقالة ووضعها في صندوق كأمانات عند الموظف المعني، ويُمنع استردادها قبل نهاية الدوام والخروج. أصدر هذا المنع متعللاً بكثيرين يستخدمون هواتفهم للهو واصطياد الفتيات ومراسلتهن ومغازلتهن، ما يؤثر سلباً في سير العمل وتأجيل المهام وترحيلها للأيام المقبلة. ومن يريد استخدام الهاتف لسبب طارئ، فثمة هاتف عمومي في قسم العلاقات العامة.
هناك من يعتقد أن سليماني هذا شريك في المعمل، وأنه يتقاسم أرباحاً من الصعب حصرها عند نهاية كل عام، وإلّا من أين يستمد هذه السلطة والتسلّط، وهذا البطش والتحكم الذي لا يقتصر على العاملين فقط؛ بل يشمل الزائرين أيضاً!
وبالمقابل ثمة فريق آخر يشكك في هذه المقولات باعتبارها مجرد إشاعات مغرضة بهدف النيل من سمعة الرجل وأخلاقه. فسليماني وحرصه الشديد على المعمل مشهود له: لم يسبق له أن سَجَّلَ غياباً عبر سنوات عمله الطويلة، سوى مرات قليلة تحصى على أصابع اليد الواحدة، ولظروف قاهرة حالت دونه والحضور. وإنْ حدث هذا، وفي محاولة منه للتعويض، كان يتأخر من تلقاء نفسه، بلا تكليف من الإدارة، لساعات عدة بعد انتهاء الدوام الرسمي. يبقى داخل المصنع مع الحارس حتى ساعة متأخرة متابعاً كل شاردة وواردة، مفتشاً في ملفات ومكاتب العاملين بلا استثناء. وهؤلاء يفسّرون سلوكياته المتطرفة، حتى مع نفسه، أنه أحد الذين ولد معهم هذا الدور الذي يناسب شخصيتهم تماماً، وأنهم لا يتمكنون من إجادة دور آخر؛ دورٌ يبحثون عنه بشدة، وإذا غاب فإن العالم سيتعرض للانهيار والخراب.
سليماني واحد من هؤلاء. تشكّلت شخصيته منذ نشأته طفلاً على هذا النحو، الأمر الذي أسعفه في ما بعد للعب هذا الدور وإتقانه بلا عناء أو تذمر. دورٌ مفصّل على مقاسه تماماً، وإذا حاولتَ وضعه في مكان آخر فسيختنق ويموت، كما لو كان نبتة داخلية تم نقلها عنوة للهواء والشمس.
■ ■ ■

هذا اليوم عاد منهكاً.
أحس برأسه يدور كبندول الساعة. بل أحس بأن الساعة معلّقة برأسه، وتعيد حركة العاملين وضجيجهم وصخبهم الذي لا يتوقف مثل نمل دؤوب.
بدّل ملابسه، أخذ حماماً بارداً، وتناول غداءه وحده من دون أن ينسى حبتيّ «بندول إكسترا».
أراحَ رأسه على الصوفا في الصالون، محاولاً أن ينفض عن كتفيه طلبات المعمل وخط التصدير الجديد، وشكاوى الموظفين وطلباتهم الملحة برفع مكافآتهم السنوية، مستغلاً خلو البيت من أطفاله الذين ذهبوا برفقة أمهم لزيارة جدهم. الزيارة التي تحتمي بظلالها كي تخرج من البيت الذي حوّله سليماني إلى مصنع صغير آخر، الزيارة التي تتكرر بمناسبة وبلا مناسبة، الزيارة التي تطول وتطول تجنباً لمزيد من المشكلات بينهما.
وسرعان ما علا شخيره متسيداً المنزل بغرفه كلها.
■ ■ ■

نهض من نومه متعرقاً.
أحس بالنعاس ما زال دبقاً وعالقاً بجفنيه على رغم ساعات نومه الطويلة.
الساعة التي أحسّها معلّقة برأسه اختفت تماماً، وبقيت ساعته المعلقة على الجدار. كانت تشير للتاسعة والنصف.
ابتسم إذ زال صداعه تماماً. تمطّى بجذعه للوراء والأمام أكثر من مرة، وما لبث أن نهض وأخذ يمارس تمارينه الرياضية بحركة سريعة لاستعادة نشاطه.
أخذ حماماً بارداً.
أعد قهوته وجلس إلى مكتبه وفتح «اللاب توب» ليتابع آخر أخبار العالم عبر هذا الفضاء الأزرق العجيب المأخوذ به.
«هذه بِدعة جديدة»! اعتاد القول في كل مرة يستخدم واحدة من هذه الوسائل التكنولوجية المتقدمة.
استعاد أيام كان والده حياً يرزق:
يافعاً يرسله مشياً على قدميه الصغيرتين مسافة طويلة لبيت جده يخبرهم شيئاً ما. أو يذهب لقريب تلبيةً لحاجة عاجلة، قبل أن يتحصلوا على هاتف في منزلهم. أو يبعثه لمركز البريد الرئيسي في «البلد» ليرسل رسالة لصديق:
يناوله مفتاحاً صغيراً بعد أن يحذره رافعاً يده العريضة بأصابعها الطويلة في وجهه، «إياك ان تضيعه أو تنساه»، ليفتح به صندوقاً صغيراً ويحضر ما بداخله من رسائل طرود.
لو كان أبي ما زال حيّاً يرزق لو... ماذا سيفعل؟ هل سيصدق ما سيراه حقاً؟
لا شك في أن هذا واحد من الامتيازات العظيمة لهذا القرن، كما يقول مهندس قسم التكنولوجيا والاتصالات في المعمل.
زمن أتمكن فيه من حمل جهاز صغير بحجم الكف أضعه في جيبي، من دون أن أعرف التقنية المعقدة التي يعمل بها وماذا يحتوي بداخله! عندها أصابه الندم. (سبق أن ألح عليه أكثر من مرة مدير قسم التكنولوجيا التسجيل بدورة قصيرة لتعلم تقنيات الاتصالات الحديثة مع الموظفين، وفي كل مرة يرفض متعللاً بضغط العمل ومسؤوليته المتعاظمة) ويدق هذا الجهاز دقات متتالية بلا توقف، وإذ بقريب يتصل بك لم تره منذ زمن، بل إنه يسجل لك موضحاً من اتصل بك ولم تتمكن من الرد والإجابة، وبإمكانك أن تهاتف صديقاً بالصوت والصورة على مبعدة آلاف الكيلومترات، حتى لو كان يقيم في آخر مدينة في العالم وبتكلفة بسيطة، أو تكتب مجيباً برسالة نصية قصيرة وترسلها وأنت تستعد للنوم أو البدء بعملٍ ما.
أصبح العالم قرية كونية صغيرة يا قوم، وأنا واحد من ملايين ملايين هذه الجموع المحظوظة التي تعيش هذا العصر التكنولوجي المدهش.
أحس بالزهو.
طالعته خانة بيضاء فارغة تسأله عما يدور في رأسه، وبماذا يفكر؟ أحس بالغبطة وكأن السؤال موجه له وحده فقط، بماذا أفكر؟ بماذا؟
«أفكر بالكثير لو تدري»، استدرك.
شعر بالارتباك أمام هذه الخانة مع الفراغ الأبيض أمامها؛ فهي تلقي به في فخ الإفصاح. الإفصاح عما يدور في داخله.
أحسَّ بأن عليه أن يكون حكيماً ومتأنياً، إذ نادراً ما يتمكن أحدهم من الإفلات والنجاة من شركها.
ومما يزيد الأمر إرباكاً أنْ ليس ثمة مراجعة أو مناقشة، حيث لا تتوقف سيل الكلمات عن الركض، فلا رقيب يستوقف النص أو يستعيده. هي كبسةُ زر واحدة ليصبح النصّ أمام الجميع!
■ ■ ■

فجأة لمعَ ضوء صغير أخضر في رأس صندوق بريده. هذا يعني أنَّ رسالة وصلته للتو.
سارع وفتح الصندوق.
استعاد الآن صورةَ صندوق بريدهم المعدني بلونه الأخضر، وقتَ كان يافعاً يرسله أبوه يوم الثلاثاء من كل أسبوع إلى مكتب البريد ليتفقد الجديد فيه. يحفظ موقعه ورقمه حتى الان (508)، الرف الثالث من رفوف الصناديق الخضراء الطويلة المصفوفة على الجدار. يدخل بخطوات قصيرة بطيئة (في نعل حذائه ثمة ثقب صغير كلّما رُتِقَ عاد ثانية لوضعه)، يسير عبر ممر طويل شبه معتم بخطوات ما زال وقعها يتردد في رأسه حتى اللحظة. يلقي التحية على الموظف العجوز في المدخل بـ «السلام عليكم». أحياناً كثيرة لا يسمع رداً على تحية؛ فالعجوز يغطُّ في إغفاءة مباغتة على رغم جلوسه على الكرسي الكبير. يراه نائماً ورأسه يتدلى ويصل ذقنه، فيتابع سيره نحو الصندوق ومفتاح صغير بين يديه يتدلى منه خيط رفيع أسود، ويفتح الصندوق بقلب مرتجف خوفاً من أن يجده خاوياً.
بكبسة زر صغيرة فتح وقرأ مندهشاً:
«مرحبا.
هل أنت وحدك؟ هل لديك وقت؟
أشعر بالضيق وأود أن «أدردش» معك.
«حنان»
تسارعت نبضات قلبه وأخذت تدق بعنف تكاد أن تشق صدره.
قبل أن يجيب، سارع لخانة الأصدقاء وتأكد من وجودها في قائمته .
تذكر أنه سبق وأن تعرف إليها في واحدة من تلك «الدردشات» القصيرة العابرة. طالبة في إحدى الجامعات الخاصة التي تتوزع في «البلد» بكثرة.
عاد لصندوق الرسائل وكتب لها: «أهلا حنان، نعم وحدي، تفضلي».
«أشعر بالملل والضيق، ثمة أشياء أود أن أصارحك بها».
«ها، خيراً... هات ما لديك».
«أريد أن أراك... لا أجيد الكتابة عبر الرسائل القصيرة، دعنا نتحدث بالصوت والصورة».
«بالصوت والصورة؟ وكيف سيكون هذا»؟
«هناك زر يعلوه صورة لكاميرا، بضغطة صغيرة واحدة يفتح».
وهذا ما فعله على الفور.
وإذ بها أمامه! بصوتها وهيأتها. شعرها أسود قصير. انتبه لما يشبه الخاتم الصغير في فتحة أنفها اليمنى، وبين أصابعها سيجارة مشتعلة. كاد أن يستعيذ من الشيطان، رافعاً صوته مبتهلاً، بينما يجول بنظراته يمنة ويسرى، لكنه تذكر بأنه مرئي! كانت تجلس بنصف قامة وراء كرسي هزاز، أمامها طاولة تتناثر فوقها الكتب والدفاتر بعشوائية.
«حناااااان. هذه أنت إذن»
«سليماني... وأخيراً»
وتبادلا قهقهة عالية كمن يتبادلا كفاً بكف.
«ها... ما الذي يزعجك يا صغيرتي الجميلة؟؟"
«ممم... مم»، وأخذت تتلوى بجسدها على الكرسي، متحركة للأمام والوراء، بينما يتبعها ثدياها المكشوفان!
نسيتُ أن أتوقف عند ثيابها. كانت ترتدي «تي شيرت» قصيراً بلا أكمام يكشف نصف صدرها. وحين كانت تتوقف معتذرة وتنهض عن مقعدها لإحضار شيء ما، تتعمّد إظهار نصف بطنها الضامر!
أشعل سيجارة ثالثة ورابعة وخامسة. لم تغب السيجارة عن أصابعه. ما إن تنتهي واحدة حتى يسارع لإشعال أخرى جديدة.
تجمَّدَ في مكانه وأخذ يحدّق بها. أحسَّ كأن تياراً من الهواء الساخن يسري في جسده كله.
«ها، ماذا تفعل؟»
«لا شيء... سألتك ولم تجيبي. ما الذي يزعجك يا صغيرتي؟»
«سليماني، سليماني...»، نادته بغنج وزادت، «... آه سليماني... آه»
«عيون سليماني، هل تودين مساعدة في دراستك؟.. أنا طوع أمرك»
«لا لا سليماني... لا تذهب بعيداً... الدراسة متمكنة منها جيداً»
«ها حنااني...»
«أي يا روحي»، نادته بروحها. أحسَّ عندها بأنه يذوب شيئاً فشيئاً كلوح من الشوكولا الساخنة.
لم تسمع أذناه طوال حياته هذه الكلمة قط. عيناه لا تفارقان صدرها. يحدِّق ببلاهة طفل.
«سليماني... سليماني...»
«عيون سليماني...»
«أريد أن أراك كلك!»
«ها! عيوني! ها أنا أمامك بكلي»
«سليمااني...»
ارتعش جسده. شعر بصوتها الرقيق المترقرق كقطرات ماء ساخنة تدخله وتخترق عظامه. آهاتها المتقطعة اللاهثة المحمومة أحسَّها وكأنها فوق وجهه وداخل أذنيه. ارتعش ثانية، وتدفق الدم حاراً في عروقه فاحمرَّ وجهه.
«سليماني... سليمانـ ي»
«عيون سليماااني»
«أريد أن أراه!»
«ماذا تريدين أن تري؟ ما ذ.. ا... ما ... صغيرتي الجميلة لا... لا تخجلي»
«سليماانـ ي.. أريد أن أرى، أريد أن أراه، أعني قضيبك. الآن... الآن. يا... سليمانـ ي»
وقفز من مكانه عن الحاسوب كالملسوع والسيجارة مشتعلة بين أصابعه. أخذ يذرع الغرفة لمرات جيئة وذهاباً مصعوقاً لا يدري ماذا سيفعل، إلا أن صوتها تبعه «... ُس ليم ا ن ي...» مبحوحاً، متقطعاً، متغنجاً، متولهاً، مستعطفاً، متدللاً، متوسلاً، متسولاً، ولحوحاً: «ياروحـ ي.. سـ لـ يـ م انـ ي."سُ ل ي...»
يا «حنااني»
رمى بقيمصه أرضاً. تعرّى صدره المشعر بكل وضوح. ألقى بسيجارته في المنفضة وهي لا تزال مشتعلة، وخلع بنطاله وسرواله الداخلي، وأخذ يهمس: «حنانـ يـ حـ نـ انــ.....»
«يا روح روحــ ي! يا قلب قلبي أنت»
بدأ يداعب قضيبه أمام ناظريها لينتصب شيئاً فشيئاً كرمح، فيما هي تحدِّق عبر شاشة زرقاء مضيئة على اتساعها.
ابتعد عن الكاميرا قليلاً، سمع صوتها يتوسله: «توقف هنا، أرجوك هنا، هنا أجل. تماماً سليمااني. هكذا أفضل. هكذا».
ووقف بكامل عريه فيما يتأرجح بين يديه «مؤشره الحيوي» نحو الاتجاهات كلها. أعلى وأسفل، أسفل وأعلى، جيئة وذهاباً، ذهاباً وجيئة، ويردد:
«حنان يـ..حـ.. حـ نـ اانـ ي. أريدك الآن يا نبع حـ نـ اانـ ي...»
«سليمااانـ ي... سُـ لـ..سليماانـ ي...»
«حـ نـ ا. ن، ..ي... سليماا. حنااانـ... سـ لـ.»
تداخلت أصواتهما معاً، وتلاشت كل الأشياء دونهما!
انطفأ الضوء بعدها، فارتمى على الصوفة بكامل عريه، وغفى.
■ ■ ■

بعد مرور أيام قليلة، وجد سليماني نفسه مطروحاً فوق سريره لا يقوى على الحراك: عاجز، ومرتبك، وغاضب - إذ لأوّل مرّة لا يعرف ما الذي سوف يفعله.
أدرك أنه وقع في مصيدة دنيئة ولئيمة، حيث لم يتمكن من بل ريقه الناشف بكأس من الماء، بينما المطبخ على مبعدة خطوات قصيرة منه.عاجزٌ لا يستطيع حتّى المشي باتجاهه.
بذهول وقلق وخوف أعاد قراءة الرسالة بحلق ناشف وهو يرتجف:
«سليماني. أرسل لك محادثتنا الأخيرة بالصوت والصورة لتتأكد من تسجيلها. عليك أن تختار بين نشرها على صفحة المعمل بالفايسبوك واليوتيوب، أو أن تدفع مبلغاً سأحدده لك وأبلغك بكيفية توصيله لي عندما يصلني ردّك. فكِّرْ. أمامك 24 ساعة!
حنان»
أُسقطَ في يده! لم يجد سليماني نفسه عاجزاً مثلما هو الآن.
محاصَر من عدوٍ يبتزه ولا يقوى على معاندته، أو مقاومته. فاقد الحيلة تماماً.
روحه في قبضة فتاة بعيدة عن تعليماته وأوامره الصارمة التي أخضعَ بها موظفيه، وها هي ترتدّ عليه إملاءات أشدّ صرامة لا ترحم! ترتدّ عليه لتضربَ شخصيته المتسلطة في الصميم، وتهوي بكرامته إلى الحضيض!
كانت الساعات الأربع والعشرين تتناقص سريعاً، وكان سليماني يتهاوى.

* قاصة وكاتبة أردنية