في الثمانينيات، التقيت بالصدفة في حوش الامراء بزميلي من ايام المدرسة الانجيلية إلياس أبو حيدر. كانت زوجتي مريضة ونحن ننتقل من طبيب إلى طبيب، وقد نكون من الأوائل الذين ذهبوا إلى زحلة بعد توقف القتال. لم تكن هناك وسائل اتصال في بعلبك؛ لا تليفون ولا غيره. سألت وعرفت أن في حوش الأمراء سنترالاً للاتصال، بعد أن أخبرني الطبيب عن وضع زوجتي. لم أصدق أولاً، وارتبت في كلامه، ولكن رأيت من الحكمة أن أخبر أخاها ابو علي نايف في الكويت، فهو قد درس التمريض وذو خبرة واسعة في مجال الطب بحيث انه كان كما علمت يدير وزارة الصحة كلها في الكويت وان كانت وزيرة الصحة من العائلة الحاكمة. لذلك احببت ان استنير برأيه فثقتي بمعرفته تفوق ثقتي بكل الاطباء الذين قابلناهم. رآني إلياس. قال: ماذا تفعل هنا؟ أخبرته. قال: أين زوجتك؟ قلت في مستشفى تل شيحا. قال: هل تستطيعون أن تذهبوا إلى أوتيل ديو؟ قلت: لا أدري. قال: هناك أفضل بكثير. أوصلني بسيارته إلى المستشفى، ولم أستطع أن أتصل، لأنهم قالوا: إن الاتصال بالبلاد العربية بعد الظهر. ثم التقيت به مرة أخرى في بعلبك، وقال: أنا موظف في قصر العدل. ودعاني لزيارته، وتذكرنا بعض زملائنا. قال: أتذكُر كرم كرم؟ أعملت فكري، فتذكرت طالبًا نحيلاً هادئًا أبيض اللون. قال: لقد أصبح وزيرًا. كنت أراه على التلفزيون، ولم يدرْ بخلدي أن هذا هو زميلنا. أذكر زميلتي أميمة أيوب. والدها كان محاميًا. كان القس شوقي يحضر أحيانا. قد يعطينا درس تاريخ. ناقشت اميمة القس قائلة: لماذا يخلق الله الإنسان غير جميل أحيانا، وما الحكمة في ذلك؟ كانت زميلتي تعبّر عن ذاتها ولا أدري كيف تخلّص القس من الإجابة. أتذكّر Mr. Little وهو قس إنكليزي، ومؤسس المدرسة مع القس شوقي حولي يدرّسنا مادة البيولوجي والدين الكتاب المقدس. كان واسع الصدر، لطيف المعشر، يعرف العربية كتابة وقراءة. كنت على علاقة طيبة معه، وأثناء الامتحان، وهو يجري لنا امتحانًا شفهيًّا، يسألنا في الكتاب المقدس. سألني سؤالاً صعب علي. قلت: يا حضرة القسيس أيمكن أن أحكي قصة الابن الضال؟ قال بالعربية وبلكنة إنكليزية: طيب إحكي الإبن الضال. أذكر علامتي بالدين (80%)، ولا أزال أحتفظ بورقة العلامات لتلك السنة (1954-55). قال مرة: إن لديكم- يقصد العرب- أمثالاً جميلة، وأمثالاً قبيحة. قلنا: مثل ماذا يا حضرة القسيس؟ قال: من أجمل الأمثال عندكم «الأرض الواطية بتشرب ميتها وميّة غيرها»؛ ماؤها وماء غيرها. وتقولون أيضاً:«عاهرة، ولا تقولون عاهر. إيه في ستين عاهر». كان يتكلم جادًّا، ونحن قلبناها إلى غمغمة من الضحك. كنا أثناء الفرص نتبادل الحديث بالإنكليزية. هكذا نظام المدرسة، ويعطى أحد الطلابSIGNAL ويدور بين الطلاب، فمن يسمعه يتكلم بالعربية يعطيه الـSIGNAL ، وهذا بدوره يبحث عن آخر ليعطيه إياه، والذي يبقى معه عند دق الجرس يدفع غرامة (25) قرشًا.
كان يشاركني في غرفة السكن زميلان عاد أحدهما إلى أهله في المخيم في بعلبك بعد أسابيع قليلة، وأخبر أباه أن المدرسة تعلمنا درس دين من الكتاب المقدس، وأننا كل يوم نقرأ صلاة الأبانا، ونستمع إلى عظة من القسيس، أو أحد الأساتذة يشرح آيات من الكتاب المقدس. كان رد أبيه: انت تعرفك دينك وربك فإذا كانوا يعلموك في مدراسهم وطلب منك القسيس أن تلبس صليبًا قل له: يا حضرة القسيس أوصاني أبي أن أطلب منك صليبًا أكبر وأطول. تُظهر هذه الحادثة اهتمام الناس بالتعليم، كما تظهر التسامح الذي استمر، وكما عشناه في بلادنا فلسطين.
في التسعينيات من القرن العشرين، ذهبت مع أحد أبنائي إلى زحلة حيث أحد مراكز تقديم البكالوريا، فإذا المدرسة في الحارة التي سكنت فيها تغيرت كثيرًا؛ معظم البيوت كانت في الخمسينيات بيوت طين، أو قرميد. رأيت دكانًا صغيرة. تحادثنا، وأخبرته إنني سكنت في عدة بيوت هنا. وأشرت إلى الأسفل حيث كان بيت جوزيف الشويري أبو إيلي، وقد أصبح المكان وما يجاوره مدرسة رسمية أيضًا. مشيت قليلاً إلى الأمام، وإذا أنا أمام مدخل مدرستي التي قضيت فيها سنتين من حياتي. وقفت تحت نافذة الصف الذي درست فيه الثالث والرابع متوسط، يومها كان يسمّى الثانوي. خطوت إلى الأمام، فإذا مدخل المدرسة كما أعرفه، والبيت كما هو. رأيت طفلاً صغيراً وامرأة في الساحة، أو التي كانت ساحة المدرسة. عدت أنتظر نهاية الامتحان، وعادت بي الذكريات في هذا الطريق الضيق والقصير بين الشارع الرئيس ومفرق المدرسة. أذكر أنني عندما ذهبت لأسجل للعام الجديد (1955-56) التقيت بإحدى الزميلات، ولا مفرق أو طريق لأهرب منه بسبب الخجل، فبقيت ماشيًا حتى تلاقينا. نظرت إلى وجهها، فإذا هو محتقنٌ بالدم حياً، وأنا لا أدري كيف كان وجهي. لم أكلمها أو تكلمني، وهذه صورة عن سلوك الناس أيام زمان.
علِمنا أن أحد أبناء قريتنا في مستشفى تل شيحا. ذهبت أنا وزميل لي وزرناه. كانت الأنروا تقدم خدمات أفضل من الآن بكثير، فالهيئة التابعة للأمم المتحدة، والتي ترعى حقوق الإنسان، تتركنا بعد نهاية الخدمة بلا ضمان صحي. عرضنا كثيرًا أن ندفع ما كنا ندفعه ونحن في الوظيفة والأنروا ترفض. قبل سنتين، أو نحوها، طبق هذا القانون الجديد؛ فالموظف يدفع رسم الضمان كأيام الوظيفة، ويبقى مضمونًا. يجري هذا على سنة قبل صدور القرار. الذين مثلي، والذين تركوا الوظيفة قبل صدور القرار، فلا يجري عليهم القانون. رفعت كتابا لمدير الأنروا، وكان الجواب سلبياً. قيل لي: إن هناك جمعيات كثيرة وأناس يقدمون مساعدات في مثل هذه الحالات. قلت: إذًا أنا أتحول إلى شحاذ، ولن أفعل ذلك. قالوا: لا.. إن هذا هو عمل الجمعيات، ولكن ما تقدمه قليلاً. لم أقتنع، وقلت: هناك اثنان أشعر أن لي عليهم حقاً؛ أحدهما الأنروا، والتي أمضيت عمري في خدمتها، والثانية المستشفى، وهي تعلم ما دفعت، ولكن الاثنين خذلاني. حمدت الله أنني لم أتلق مساعدة من أحد؛ فأنا الآن أرفع رأسي وأشعر بالكرامة، وأنني بذلت كل ما أملك وزوجتي، والتي تستحق أكثر بكثير من ذلك، وما أنفقته لا يساوي فردة حذائها، وقد تركتني وحيدًا في الدنيا فاقدًا لطعم الحياة، وإذ الأشياء التي كنت أراها لعشرات السنين تبدو غريبة عني، ولا أحس بوجودها، حتى الطعام، وأحيانًا أجلبه من أحسن المطاعم في بيروت، ولا أجد له طعماً. لقد فقدت الأنيس والجليس.
كنت ذاهباً إلى بعلبك والسيارة مسرعة، وأنا من محبي السرعة، وكنت أستعجل الوقت لأصل إلى البيت. انتبهت إلى السرعة، وكأن شيئًا فاجأني؛ فما معنى السرعة والوصول إلى البيت وزوجتي فارقتني منذ شهور؟! هكذا تغير إحساسي بالأشياء ونظرتي إليها، ولم يعد يستهويني شيء. قد أشتري، واشتريت ثياباً أعجبتني وأحذية كذلك، وأحضر مسرحًا وندوة، ولكن الأمور تغيرت بعد فقدان رفيقة عمري.
بعد هذا الاستطراد، أعود إلى مدينة زحلة، والتي أحبها وأحترمها، وكثيراً ما أذهب إليها، وأتحدث عن زحلة كما أعرفها في الخمسينيات، وعن طيبة أهلها ونخوتهم ومساعدتهم للغريب. أكثر من مرة أكون في مستشفى تل شيحا وليس هناك سيارات عمومي في العودة. أقول: مرات تقف سيارات خصوصية، وبعضها تقودها فتيات، فتأخذني إلى وسط المدينة. المستشفى خارج المدينة ومشرف عليها على تلة في الناحية الغربية، ويقابله المدرسة الإنجيلية الجديدة والقديمة أيضًا في الجهة الشرقية. قد تكون زحلة أكبر مدينة مسيحية في لبنان وهم في الغالب الأعم من الكاثوليك، وإن كان يوجد بعض المذاهب المسيحية الأخرى. مما لا أنساه أنني ذهبت وزوجتي للعلاج في العام (1987). سألنا عن طبيب نسائي، سألنا سيدتين. قالت إحداهما: أنا طبيبي غير الطبيب الذي تسألون عنه، إنه في الشارع الأعلى على طريق المعلقة. وقالت لصديقتها: انتظريني عند بيت فلان لأوصل الجماعة إلى الطبيب. قلت لها: إنني أعرف المنطقة جيداً، وإنني تعلمت فيها. وبقيت مصرة على أن توصلنا إلى العيادة، ولم تتركنا إلا بعد أن تأكدت أنني أعرف المنطقة، ثم سألنا سيدة أخرى، وفي أسئلتنا هذه كنا نحاول أن نجد طبيبًا جيدًا. سألت زوجتي المرأة. قالت: أنا طبيبي قريب من هنا. لم تصف المكان، بل ذهبت معنا حتى أوصلتنا إلى العيادة. هذه المعاملة لم أجدها في البلدان العربية التي زرتها، بل إنهم غالبًا ما يضحكون على السائل، ويدلّونه على مكان غير المطلوب. كثيرًا ما صادفت هذا النوع من الناس. إنني أشعر أن أخلاقنا في الحضيض، وأن لا قيمة لما نراه في وسائل الإعلام مما يكتب أو يشاهد أو يسمع.
لا أنسى أن معرفتي لزحلة قديمة قبل أن أذهب لأتعلم في الكلية الإنجيلية منذ أوائل الخمسينيات. كنا نذهب إلى البردوني، وهناك مقاهي رائعة من حيث موقعها والخدمة التي تقدمها، وكنت وزميلي نذهب صعدا بعيدًا عن المقاهي، وكانت المياه تهدر قوية نظيفة آتية من جهة وادي العرايش، وكنا نستحم في تلك المياه، ولي صور لا أزال أحتفظ بها منذ سنة الخمسين في بعلبك وزحلة، ومنها صورة الاستحمام في البردوني. لقد امتدت المقاهي، والأرض التي تلي المقاهي القديمة التي كنت أعرفها بورًا أصبحت مقاهي الآن. أذكر أني حضرت فيلمًا وأنا في المدرسة في زحلة، وكان فيه بعض المناظر التي اعتبرت حينها مخلة بالأخلاق سببت ضجة، ومنع عرض الفيلم، وأخذ رجال الدين يعظون حول الأخلاق والتربية، وقد حضرت عظة بليغة؛ أذكر أن المطران قال: أأقولها؟ أأقولها؟ لقد انحطت الأخلاق. وهو يستعين بيده لإيصال المعنى. مدينة نظيفة وأنيقة ومثقفة ومحافظة على القيم الإنسانية. أذكر أنني كنت ذاهبًا من البيت إلى المكتبة، وكان أمامي رجل في حوالي الستين من عمره وهو في تمام أناقته مرّ من جانب الكنيسة، فتقدم وقبّل الجدار. هذا إيمان لا رياء فيه. كان وحيدًا وأنا وراءه. أذكر عيد البربارة وخميس الجسد وعيد الزهور. منذ سنوات شاهدت أحد أبناء عيسى إسكندر المعلوف، وأظن أنه رياض المعلوف أحد الإخوة الثلاثة الشعراء، وقد احتفلت به مدينته، وسمعته يقول إنه سيحاول إعادة مجد الشعر لزحلة. كما أعود لأذكر بالخير المكتبة الأميركية، والتي استفدت منها على مدى سنتين، قرأت فيها كتبًا كثيرة وصحفًا ومجلات، ومن هذه الكتب؛ المصلحون العشرة، وكتاب في الفلسفة للأب بوتيير وفيه صفحة لم أفهمها وهي عن برهان وجود الله عقليًّا. لم أجد في هذه الصفحة الصغيرة نقطة أو فاصلة تساعدني على الفهم، ولا أظن أن الكتاب وضع لطالب في المرحلة المتوسطة. قرأت تلك الصفحة عشرات المرات، ومرة، أو مرتين، أحسست أنني أكاد أن أمسك بالفكرة، ثم تفلت مني، وبقيت كلما أذهب إلى زحلة أمر على المكتبة لأعيد قراءة الصفحة التي لم أفهمها، وبقيت سنوات، وأنا كلما مررت أقرأ هذه الصفحة، والتي لا فاصلة فيها ولا نقطة لتساعد على فهم العبارة، وفي إحدى المرات لم أجد الكتاب، فحمدت الله. ومن ثم أغلقت هذه المكتبة، وحل قريبًا منها مكتبة البلدية. ذهبت مرة واحدة. هناك قيّم على المكتبة تطلب منه الكتاب الذي تريد. فوجئت لأنني كنت أدخل المكتبة الأميركية وأختار عن الرفوف الكتاب بعد تصفح عدة كتب. قد لا أنتهي من الكتابة عن زحلة، ولكني سأعود كلما تذكرت شيئاً، وأنا الآن في السنة التكميلية الرابعة، والتي لم أكن راضياً عن أدائي في تلك السنة. وداعاً زحلة، فها أنا ذا أشد الرحال إلى بيروت، وشد الرحال هذه من مصطلحات القدماء يوم كانت الرحلة على ظهور النوق والجمال والحمير والبغال، أما الآن فلا نوق ولا جمال ولا مصطلحات تعبر عن وسائلنا العصرية، فقد كان يقال: ألقى عصا الترحال، للدلالة على انتهاء الرحلة والاستقرار في مكان، كأن يقال: وفي دمشق ألقى عصا الترحال، أو أناخ بعيره في بيت المقدس.
ولكن هذه كلها مصطلحات قديمة، اما في عصرنا هذا فاننا لم نفشل فقط في مشاركة الدنيا في صنع الحضارة الحديثة، بل فشلنا أيضًا في وضع تراجم للمصطلحات الاجنبية في لغتنا تكون سهلة وسلسة لتسير على ألسنة الناس بدلاً من استخدام الكلمات الاجنبية.
* من مذكرات «الخط الشمالي» (منشورات الجمل)