كَمَنْ يُشرِّحُ قَلْبَهُ مُستنجداً بكُلِّ قوى الذّاكرة ونُدوب الحُبّ الغائرة والخيبات والمظالم، تكتب الشاعرة ناهدة عقل «كتاب الحب» (دار أرواد للطباعة والنشر) بحساسيةٍ مغايرةٍ، ولُغةٍ تُعلي من شأن المتضادات لتُبْرِزَ عُمْق الألم ومرارة التجربة، خاصةً حين تترسخ الحتمية القائلة بأن القلب ليظل ينبض لا بد له من تكرار أخطائه، وأن «الصالح للحياة هو المستعدُّ أبداً لتكرار الوقوع في هاوية الحب».تكرارُ الوقوع في حفرة الحب ذاتها عشرات المرات جعلت الجروح تَنِزُّ حكمةً، كنوعٍ من أَسْطَرَةِ اليوميّ، وجعلِ الشعر مُمْعِناً في تشخيص أمراض القلب وعِلَلِه، لا سيما تلك التي لا تقدر أجهزة التخطيط الطبية على معرفتها، إلى درجة أنها قد تُبدي ذاك الفؤاد طبيعياً، إلا أن قُدرة الشاعر على الكشف عن تراجيدياته، وتبرير المرارة، تجعل الأمر برمته ليس اكتشافاً لخلل النبض أو اختلاف الضغط الشرياني بقدر حفظ ماء وجه الحب. تقول ناهدة: «كنتُ أحبّه/ أما هو فكان يُحبُّ حبِّي له./ كنا نقف دائماً مُتقابلين/ على مقعدين.. رصيفين.. شارعين.. خندقين.. وأحياناً/ على خطوط تماس.../ أتحصُّنُ يومياً بستار صمتٍ هشّ/ فيما يتحصّنُ بجدار كلامٍ من إسمنت مُسلّح/ ودائماً في جُعبته أضعافُ أضعافِ ذخيرتي مِن:
الكلمات، النظرات، الابتسامات، الحركات، و.. الإيمان/ بقوة العقل مع هذا،/ كان رصاصُه لا يهدأ/ فيما تستفزُّه طلقةٌ يتيمة أُرسلُها بين حينٍ وآخر، / لا لشيء غير حفظ ما قد تبقّى من / ماء وجه الحب».
تسود نبرة الحكمة وما يُرافقها من تجويدٍ وتكثيفٍ شديدٍ للعبارات


ورغم أنه «في معركة الحب.. غالباً ما يسقط الحب أول الضحايا» وأن القلب لكثرة ما حاول أن يحيا صار «مقبرةً للذكريات»، إلا أن صاحبة «في غياب الرب» تؤكد نُبلَ حروب الحب، لأن فيها فقط ترى الضحية تتوسل نجاةَ قاتِلِها، فيما القاتلُ قد يكون ضحيةَ حُبٍّ أخرى تتوسل نجاة قاتلها أيضاً. فالحرب التي تخوضها ناهدة يتعالى صليل معارك النبض فيها، بحيث لا تُبقي رُكناً من أركان الحب إلا وتُعْمِل فيه لُغَتَها. فالرغبةُ في عُرْفِها هي الأصدق وما عداها «أوهامُ صدق»، فيما الشَّفقة ظنون حُبٍّ رسَّختها أديان المحبة. أما الغفران فأسوأ أنواعِ الحب لأنه لا يعرفُ اسمَ نفسه، ويُسمّيها –إن تذكَّرَ- نسياناً. يبقى الحُب هو القادر على تحقيقِ معجزةِ العدالة والانشغال بتنفيذ قانونِها وتقويمِ كلِّ موضعٍ أخطأتِ الطبيعة فيه، من دون أن يُبرِّرَ الأنانية. لذا الحذر واجب من «أن يُعميك ركضكَ وراءَ القلبِ الذي تحبّ، عن رؤية القلوب الثابتة في محبتها لك». أما الإنكار فَحَقٌّ للمُحِبّ الصادق الذي سَئِم جعل قلبه مُجرَّدَ تسليةٍ، فصار من حق ذاك القلب أيضاً «أن لا يحفظَ ذكراك.. إلا كنقطة دمٍ متخثرة.. كادت تودي به ذات مرة». بينما القداسة «أوّل مسمار يُدقّ في نعش كلّ حب»، أما الخيانة فأشدُّ فتكاً من القتل، والخوف من انتظار «أن تخونَ دفعة واحدة وبأشدّ الوضوح كل ما بيننا» أكثر الأشياء مضاضةً في الوجود، إلى جانب الأشواق التي تتناسب بحسب صاحبة «ليل البتول» طرداً مع المسافة، بحيث لا تعود مقولة البعيد عن العين... صالحة، فـ«الحب يقوى بعذاب الشوق».
ولأن «الحب كما الحرب لا يسمح بالكثير من التمييز الأخلاقي، قد تسرق أهلك لتعطي من تحب، وقد تقتل لتنقذَه من مشنقة يستحقها» فإن «عقل» تُخصِّب مشاعرها، وتُدوزِن ميزان عدالتها على مقامات الألم والغفران، ونسيان الرَّغبة بالتَّشفِّي، ليأخذ الإيثار عندها بلاغةً إضافية وعُمْقاً وجدانياً، فها هي تقول: «أرجوكِ يا عدوّتي: أحِبّيه. أحبّي حبيبي.. لئلّا يذوق ألمي». وكأننا أمام مُعضلة وجودية سبَبُها الرئيس عضلة القلب، واختلاف النَّظرة تجاه الآخر «هو حبيبي، وأنا صديقتُه.. أُعاتبُه بما لي عليه مِن حقوقِ الصداقة.. ويُطالبني بحقوقِ الحب!!».
تعلو في معظم نصوص «كتاب الحب» نبرة الحكمة، وما يُرافقها من تجويدٍ وتكثيفٍ شديدٍ للعبارات، بحيث تصبح كالسَّهم الذي يُصيب لُبّ الفكرة، ولا يحيد عن مركز الهدف بتاتاً. تبرِّر ناهدة ذلك في أحد نصوصها بأن «الحكمة هي كل ما يبقى بعد الخسارات الكاملة»، التي توجب إكراماً للحب ذاته أن نُدير ظهورنا له أحياناً ونمضي، «كمن يدوسُ على قلبِ نفسه». ومع ذلك تؤمن بأن الحب سيبقى المنتصر الأكبر في كل حروب العُشَّاق، فها هي صاحبة «مفاتيح الغيم» تُهنِّئه رغم أنها ضحية من ضحاياه:
«هنيئاً لك يا حبّ/ هنيئاً لك/ رغم كل تاريخك وحاضرك الدموي/ ستظلُّ الملك الأعظم/ تُعلَّق صورك في صدر كل بيت/ ويُسمّى باسمك الناسُ وأبناء الناس وأغلى ما يملكه الناس/ سيظل يُنطق به في الشوارع والساحات ودور العبادة والمدارس والمشافي والحانات/ وإلى أبد الآبدين؛/ ستظل تُحرق أمام صنمك الغاشم/ شموع الحياة مجبولةً/ بدموع ضحاياك العُشاق».