ترجمة خيري الضامنتشبثتْ بدربزين السلم الخشبي وهبطت، على جنبها كالسرطان النهري، في حركة متأنية متثاقلة. كانت في رداء أزرق فاقع تتحزم منديلاً مشجراً مفتولاً كالحبل وتنتعل جزمة لبادية متحشفة معقوفة، وعلى رأسها ما يشبه قلنسوة الراهبات.
قمم الدردار الذاوية تتعانق فوق السلم وتسكب عليه ظلالاً كثيفة. حينما بلغت الشارع المعبد المغمور بأشعة الشمس لفتت انتباهي عصا مغروزة في زنارها من جهة الظهر. تعكزت عليها ومرت تجرجر قدميها أمام نافذتي. ومن فوق سطوح المنازل الواطئة المنسابة إلى النهر ألقت نظرة على المنخفض الفسيح، فيما كان الهواء الساخن يدوم في حركة تصاعدية مرئية والسماء في غلالة باهتة صفراء تطغى على زرقتها.
قلت لمضيفتنا العجوز وأنا أغرز سبابتي في فضاء النافذة المفتوحة:
رأيتها أمس في السوق.
- أتصور دهشتك! هل كانت معها المغرفة؟ - تساءلت المضيفة وأخذت نفساً عميقاً من مبسم السيجارة وواصلت: - اسمها نينا إيفانوفنا، لكن الناس ينعتونها بالمغرفة ويقولون إنها مخرفة. - عدلت المرأة من وضعية البرقع المخرم على كتفيها المعروقتين. منديلها الأزرق المكوي يلقي ظلالاً على وجهها، على عينيها البنيتين الرائعتين رغم الثمانين، على أرنبة أنفها المنبسطة بعض الشيء وعلى شفتيها الرقيقتين المرطبتين بأحمر شفاه فاتح. - مسكينة هذه الخالة.
كانت تسمي كل العجائزالأخريات بالخالات. وعندما تتنقل في أرجاء المنزل لا تسمع لها صوتاً أو ضجيجاً، ولا ينبئك باقترابها إلا سحابة دخان خانق تسبقها إليك. فهي مدمنة على تدخين سجائر رخيصة.
في بعض الأحيان ترافقنا إلى السوق، لكننا في ذلك اليوم ذهبنا لوحدنا. وهناك تجد عادة تفاحاً يرثى لحاله جنب الطماطم الريان، وفؤوساً مصنوعة كيفما اتفق جنب البطيخ الأحمر، كما ترى القشدة والبطاطس جنب حلى من البلاستيك مطلية بلون الذهب تحدق فيها بنات مبهورات يقضمن أظافرهن من الدهشة وهنّ في فساتين رخيصة وجوارب زاهية.
وفجأة ظهرت في جناح الألبان تلك العجوز بقلنسوة الراهبات وفي يدها المرتعشة مغرفة صغيرة ومن زنارها تتدلى علبة زجاجية خالية. وما إن اقتربت من أول دلو للقشدة حتى ضجت البائعات في لغط غاضب. «اطردوها، أبعدوها، وإلا ستنثر القمل في الدلاء. يا عيب الشؤم». وقبل أن تتلقى العجوز أولى الدفعات والرفسات، تمكنت من أن تغترف من الدلو. لم ترد على الإهانات، بل هي عموماً لا تلتفت إلى أحد. وجهها المتغضن المائل إلى الحمرة لا ينم عن شيء، وإنما يعبر عن لاأبالية خرساء تحير حتى أخصائيي السيميائية والمكياج.
دمدمت عجوز أخرى طاعنة في السن: «ما أشد حقد البشر. لو تصدقوا عليها لانتهت المشكلة. لعنكم الله يا برجوازيون».
هدأ روع «البرجوازيين»، فعادوا إلى دلائهم وموازينهم. كان ثمة في أيام التسوق ثلاثة أو أربعة متسولين يلتمسون حبات الخيار والطماطم عادة، واللحم خصوصاً. لكنّ «المغرفة» دأبت من زمان على مداهمة جناح الألبان لتأخذ من كل دلو جرعة حتى تمتلئ العلبة المثبتة على زنارها.
مسكينة هذه الخالة. كررت صوفيا عندما فرغتُ من حديثي معها، وسحبتْ نفساً صامتاً من المبسم الخشبي الصقيل المطعم بالفضة. هل ستذهبون إلى النهر كالعادة؟ سأعدّ حساء الفجل والخيار البارد هذه المرة.
للصيف الثالث على التوالي، نستأجر ركناً في منزل صوفيا فاضلوفنا. وقد نصحني أحد معارفي بالنزول عندها، دون أن يكون واثقاً من نجاح المحاولة. قال: «إنها تترية متزمتة. من أميرات أيام زمان. فحاول ولن تخسر شيئاً. منزلها كبير، تقيم فيه لوحدها، وموقعه هادئ، بين مركز المدينة والنهر».
في نفس اليوم، مضيت مع زوجتي وطفليّ إلى «الأميرة». منزل بطابقين من القرميد الأحمر قائم في بداية المرتقى إلى تلة المسجد القديم الذي حولوه إلى متحف. فتحت الباب عجوز معروقة فارعة القامة بمنديل أزرق ومبسم سجارة بين أسنان مسودة. استمعت إلي بكبرياء وقالت إنها لا تؤجر غرفاً لأحد، ثم أضافت بعد هنيهة «ما عداكم ... حاجبا زوجتك كحواجب نساء بلاد فارس - وألقت نظرة متفحصة على زوجتي- عيون حور كعينيها جعلت من الرجال أنبياء ومغامرين، وكذلك مؤسسي إمبراطوريات رموا بها تحت أقدام الحوريات». تبادلنا النظرات أنا وزوجتي، فغضت «الحورية» طرفها مطرقة، لكنها سرعان ما ابتسمت بتحفظ وقالت: «لست مختلة العقل... قاتل الله الوحدة».
كانت صوفيا فاضلوفنا تتساهل مع زوجتي وتنظر بشيء من التعالي والكبرياء إلى محاولاتها للمشاركة في طهي الطعام وتنظيف المنزل. وهي في الحقيقة محاولات نادرة لأننا نقضي معظم أوقاتنا على ضفة النهر. وقبيل النوم تقرأ على طفلينا قصص «ألف ليلة وليلة» مجلداً تلو مجلد في طبعة فاخرة نقلها مترجمون سوفيات عن العربية بتصرف متعسف أبعدها عن الأصل وجعلها أكثر شرقية من شرقيتها، فجاءت نابية لا يستسيغها الذوق السليم.
أما بالنسبة إلى ابني وابنتي، فقد صارت العجوز التترية شهرزاد بعينها. وبعد ارتخاء لذيذ بسبب الحر والهواء المشبع بعبق الصنوبر يغطان في نوم عميق، فنظل حتى ساعة متأخرة من الليل نحتسي الشاي في المطبخ الفسيح على مائدة طويلة ينيرها مصباح ساطع في أباجور برتقالي.
«تعالوا ننتشي بالشاي»- تدعونا صاحبة البيت عادة (ولعل هذا القول مقتبس من كاتب ما) وتشدنا إلى قصة عائلتها المتحدرة من المدعو الشيخ منصور الذي نزح إلى هذه الديار في أواخر القرن السابع عشر وعين «سيداً» أو «ولياً» في حاشية حاكمة البلد الحسناء. وقالت صوفيا عن مؤسس أسرتها «السيد» منصور بشيء من التهكم: «قبل مجيئه كانت تلك الأرملة الشابة عاقراً، وبعده لم تجد إشكالاً في الورثة. وكان الروس يسمون أولادها بالمناصرة».
جد صوفيا- وهذا البيت بيته- قام بمحاولة لترميم عش العائلة قبيل ثورة أكتوبر 1917. هدم نصف المنزل حتى الأساس، وسارت الأعمال على قدم وساق. فاستاء معظم أفراد العائلة من حمى البناء، وغادروا إلى موسكو وباريس. وفي تلك الأثناء، جاء الثوار ليضيقوا الخناق على البرجوازية ويصادروا أموالها. استقبلهم الجد في النصف المتبقي من المنزل، ويضم خمس غرف، وحوله أبناؤه الخمسة مع عشرة أحفاد. فلم يتعرض له الثوار بسوء. وكانت جدة صوفيا أسست أول ثانوية تترية للبنات في روسيا، بالإضافة إلى مسرح الهواة التتري ومجلة «النهار» الأدبية. في المسجد- المتحف، تجد صورة السيدة منصوروفا في قبعة مائلة جنب إعلانات مسرحية وقاموس عربي روسي فرنسي من تصنيفها. وهنا، في هذا المنزل، تعرفت صوفيا على منصور الأصغر. وهو من أبعد أقربائها. كان يتلو عليها شعراً عربياً من نظمه مدوناً على صفحات صفراء في دفتر سميك يسميه «الديوان».
وتنهدت صوفيا فاضلوفنا: «آنذاك لم أكن أفقه شيئاً بالعربية، فكيف بي الآن؟ نسيتها تماماً».
«ديوان منصور» هو الشيء الوحيد الذي نجا أثناء التحري. أما الباقي، فقد صودر بأكمله. اعتقلوا فاضل، والد صوفيا، مع منصور. وكان رجال التحريات من التتر، فلم يتجرأوا على تفتيش «الأميرة» الشابة التي خبأت «الديوان» تحت ثيابها. «لم نقبل بعضنا ولا مرة. نقلوهم جميعاً بالباخرة إلى قازان واتهموهم بالدعوة القومية والانتماء إلى الفرقة الملية الإسلامية. وفي عام 1937 أعدموهم رمياً بالرصاص. لم أكن أعرف ما حدث لهم. انتظرت طويلاً، ثم تزوجت...».
بعد فترة وجيزة من تعارفنا، عرضت علينا صوفيا «ديوان منصور». وهو مخطوطة سميكة بجلد فني ثمين وأحرف عربية مذهبة ممحوة على الغلاف، وفيها قصائد وأبيات بهت حبرها تتراكض من اليمين إلى الشمال على صفحات بلون العسل الطازج. صوفيا فاضلوفنا تحلم وتتمنى - هكذا قالت بالحرف الواحد: «أحلم وأتمنى...» - أن تسمع هذه الأشعار العربية من جديد. رجوتها أن تسمح لي بتصوير بضع صفحات من المخطوطة، فالتقطت صوراً أخذتها معي إلى موسكو وعرضتها على أحد المستعربين من معارفي. قال منكمش الأنف: «شعر ركيك. غزل فيه الكثير من أحلام العصافير، ومتبل بحب وطن هضيم مائع الحدود باهت الجغرافية. لعله وطن في القلب أو في السماء وليس على أرض الواقع. ولكن ما أبعد جغرافية عام 1937 عن حاضرنا...».
سجلت تلك الأبيات على شريط بصوت صاحبي المستعرب وأهديتها إلى مضيفتنا في الصيف التالي. استمعت إليها وهي تدخن أمام النافذة، وقالت أخيراً: «صدق ظني. كنت واثقة أنك ستسجلها. معذرة على الإزعاج وألف شكر. ما أشد حماقتي».
لم يعد معنى تلك الأبيات ولا حتى جرسها بذي أهمية طبعاً. ذلك لأن ديوان منصور الذي لا تفقه صوفيا من محتوياته سطراً تحول من زمان إلى مجرد تعويذة أو طلسم سحري يعطي حياتها وذكرياتها معنى ومصداقية. ولعل المخطوطة بحد ذاتها غدت المعنى الوحيد لحياة هذه المرأة، فاستحالت شيئاً في ذاته ليست له أية قيمة بدون حياتها. «فالديوان» هو ذاكرة اختلائها بالفتى في التنزهات، ذاكرة يده المستطيلة الساخنة، وصوته الأجش، والوهن المفاجئ الذي يتملك القلب والأوصال والغصة التي تعترض الحنجرة في ضوء القمر الرائع المنعكس على سطح النهر السحري الأحمق، في عبق الأعشاب العسلية والصنوبر الفواح.
هل هي تؤمن بإلله؟ رداً على سؤالي، روت حكاية غلام أزعر مضى مع غلمان على شاكلته يتطاولون على قبور الموتى مترنمين بالأغاني والألحان، فدمروا المقابر المحيطة بالبلدة، وهي ثلاث: أرثوذكسية ويهودية وإسلامية. حتى إنّ المقبرة اليهودية سويت بالأرض واختفت نهائياً. وسألتني:
- هل زرت مقبرتنا القديمة؟ جزءها الأبعد الإسلامي الخالص؟ لا شيء سوى أعشاب الشيح العالية تنتشر هناك، وبينها على مسافات متباعدة قبور أثرية دارسة. أما المقبرة الجديدة، فهي سوفياتية: أسوار وتماثيل وحتى صور الموتى على شواهد قبور المسلمين. لم يعد عندنا من يجوّد القرآن ويرتل الأدعية ويجيد مراسم تشييع الجنازة ويقيم صلاة الغائب. والمسجد، كما تعلم، حولوه إلى متحف وجعلوا من المدرسة الدينية روضة أطفال. تتر قازان ينعتوننا بالمشركين، ولكننا في الحقيقة مساكين- وابتسمت فجأة وكأنها تبرر موقف تتر قازان- أنا مثلاً أطلب من نينا أن تشعل لي كل مرة شمعة في كنيسة الروس، وأدفع لها ثمن الشمعة.
- ومن نينا هذه؟
- نينا إيفانوفنا. المغرفة.
كانت المغرفة أيام زمان متزوجة من ابن عم صوفيا فاضلوفنا. ولها ابنة حملت وأنجبت، إلا أنها سرعان ما توفيت بورم السركومة، تاركة رضيعة غدت فيما بعد لعنة تلاحق جدتها نينا وقريبتها صوفيا. أسموها نادية، وعندما كبرت أدمنت على المسكرات وولدت من السفاح أطفالاً لآباء مختلفين، فكانت تنزح مع صغارها من كوخ مهدم إلى آخر.
المغرفة تتردد على صوفيا فاضلوفنا لاحتساء الشاي أحياناً، فتخوضان عادة في أحاديث طويلة شتى. ذات مرة رأيت صوفيا تحمل ديوان منصور إلى المطبخ وتضعه على مائدة الطعام. وبمنتهى الحذر أرخت المغرفة يديها، فاستقرت راحتاها الورديتان على المخطوطة، فيما وضعت صوفيا يديها برفق على يدي صاحبتها. وخيم السكون على المرأتين. ظلتا صامتتين مطرقتين بالمنديل الأزرق وقلنسوة الراهبات. ضوء المصباح البرتقالي وأنفاس أبريق الشاي الخافتة على الفرن ونباح الكلاب الرتيب وراء النهر، وأربع أيدٍ متغضنة تستقر على الخط العربي الممحو الحروف... وخُيّل إلي أن النعاس ألمّ بالمرأتين. نهضتُ بهدوء ومضيت إلى غرفتي. لم أنم الليل، شعرت بوخز في القلب.
بعد أيام تشجعتُ وسألت من صوفيا لماذا جلبت «الديوان» إلى المطبخ ووضعته أمام المغرفة، فأجابت:
إنه يخفف عليها أحزانها. هكذا تقول. فيا ليت...
ظننته ديوانك وحدك.
ديواني!
دخنت سجارة مقيتة أخرى، وحدثتني عن قصة «المغرفة المخرفـّة» نينا إيفانوفنا.
قبيل الحرب العالمية الثانية تعرفت على فتى اسمه ألكسي كوستروف من معمل النسيج. عزما على الزواج، لكنّ الحرب حالت دونه. فقد جند ألكسي فيمن جند. وفي 5 يوليو 1941 نقلوهم من مديرية التجنيد إلى محطة القطار الذاهب إلى الجبهة. خرجت البلدة كلها لتوديعهم. والطريق إلى المحطة أكثر من ثلاثة كيلومترات. عندما رأى ألكسي فتاته بين المودعين فرح وكان منفعلاً تفوح منه رائحة النبيذ والقولونيا. ارتبكت نينا وسالت الدموع على وجنتيها. وعندها قال لها ألكسي: «اهدئي يا بنية، سأعود. والله. لن أموت بأي حال. سأعود بنفس هذا القطار». وأخرج من جيبه ساعة فضية قديمة على غطائها بندقيتان متعاكستان وكتابة تقول: «تقديراً لحسن الرماية». إنها ساعة جده. ألقى على عقاربها نظرة سريعة وقال بعزم وتصميم: «أعاهدك، سأعود بهذا القطار في هذا الوقت تماماً، في الرابعة والنصف من 5 يوليو». يبدو أن سحر الأرقام جننه، فوقع في أسر الحلقة المستديرة، في أسر الرقم الدائري 5 حيث تلتقي نقطة البداية بنقطة النهاية، ويوم الرحيل هو نفس يوم العودة.
ترك ذلك الوعد المحير أثراً في نفس نينا، فكفت عن البكاء حالاً. ثم أعلن عن بدء الركوب. تردد ألكسي ثانية أو ثانيتين، ومد يده بساعة الجيب إلى الفتاة. وركض على طول الرصيف. تعثر. التفت. لوح لها آخر تلويحة وقفز إلى العربة. غاب القطار عن الأنظار، وعادت نينا إلى منزلها، ولم تتمكن طويلاً من أن تكفكف دموعها وهي تحدق ببلادة في البندقيتين المتعاكستين.
في سني الحرب الطويلة اشتغلت في معمل النسيج، ثم في مستشفى البلدة. تزوجت مرتين، وفشل الزواج في الحالتين. عانت من أمراض متكررة، وعاشت بعد ذلك في بؤس ووحدة وكآبة. إلا أن الساعة الفضية ذات البندقيتين المتعاكستين هي الشيء الوحيد الذي يجلب لها السلوى وتعتز به ولا تفارقه. في الخامس من يوليو من كل عام توقتها وتدسها في جيب البلوزة (التي لا ترتديها إلا ثلاث مرات في السنة عندما تتردد على الكنيسة في أعياد الفصح والثالوث والميلاد) وتمضي إلى محطة القطار ماشية على القدمين في أغلب الأحيان، فالحافلة تأتي بغير انتظام. ومن عام لآخر كان الطريق يستطيل، لكنها في الخامس من كل يوليو لا بد أن تبلغ المحطة في الرابعة والنصف بعد الظهر. وما أن يراها الحمال الوحيد على الرصيف، وهو تتري اسمه أليوشا، حتى يصيح بها بابتسامته العريضة أن لا قطار يأتي في الرابعة والنصف، فليس في جدول المحطة قطار بهذا الموعد، ولن يأتي على أي حال. وفي كل مرة توضح المرأة الروسية لهذا المسلم الأبله بصبر وأناة أن ألكسي طلب منها أن تستقبله في الرابعة والنصف من 5 يوليو تحديداً. آنذاك، في عام 1941، كان هناك قطار في هذا الموعد. «نعم، كان هناك قطار واحد في ذلك اليوم أعد خصيصاً لنقل المجندين. هل أنت فاهمة؟ قطار واحد تحرك في ذلك اليوم فقط». وتهز نينا إبفانوفنا رأسها معترضة: كفاك هذراً. وبعد ذلك، كالعادة، يسألها الحمال التتري بابتسامة ماكرة: «ضد من حارب فتاك؟» وتجيبه كالعادة: «ضد التتر طبعاً، فهل هناك قوم يستثيرون نقمة الروس أكثر منهم؟» ويقهقه الحمال ملء شدقيه. وينتهي الموعد، ولا قطار يأتي بالطبع. وتدس المرأة الساعة في جيب بلوزتها وتعود. هكذا كل عام. إبان الحرب الطويلة وبعدها. لم تتلق أية رسالة من ألكسي. ولم يتسلم والداه إشعاراً بالوفاة ـو الفقدان. تزوجت المرأة وأنجبت ومرضت مراراً وشيعت أقاربها إلى مثواهم الأخير، إلا ـنها في 5 يوليو من كل عام، مهما حدث لها في الدنيا، تقف على رصيف المحطة والساعة الفضية بيدها في انتظار قطار لا وجود له.
نفد صبر حفيدتها نادية المدمنة على الكحول، فقالت لها متلعثمة ذات مرة: «انظري إلى حالك. قاربت المئة، قدماك لا تكادان تحملانك. ومع ذلك تذهبين إلى المحطة ... ألا تخجلين من الناس؟» لم تكن تفكر في الخجل وفي الناس. ولم يعد يخطر في بال أحد أن يسأل عما يدفع المغرفة إلى المحطة كل عام. ومن المستبعد أن تجيب هي الآن على سؤال كهذا. إنها تتردّد على المحطة وكفى. تتردد عليها طالما تجد إليها سبيلاً. وهي لا تتطرق إلى هذا الموضوع حتى مع صوفيا فاضلوفنا. كل أحاديثهما تدور حول الحفيدة الخائبة وحالة الطقس والأمراض... وفي بعض الأحيان تلوذان بالصمت وأيديهما على «ديوان منصور».
استبدلت الحفيدة المتهتكة «زوجها» مرة أخرى (وما أكثر تلك المرات)، واختفت عن الأنظار تاركة أطفالها في كوخ يكاد يتهاوى على الشاطئ. ابنتها التي في الثالثة أصيبت بالخناق، فأودعوها المستشفى، وهناك أدهشت الممرضين والمرضى، فهي لم تذق طعم المربى ولا تعرف لونه. عانت «المغرفة» الأمرين موزعة بين المستشفى وبين منزلها بعدما نقلت إليه باقي أولاد حفيدتها. وبعد فترة توفيت الصغيرة. راحت صوفيا فاضلوفنا تدبر شؤون الدفن. وتم تحديد موعده بالطبع في 5 يوليو. أما المغرفة، فأخذت تجوب البلدة بحثاً عن حفيدتها الهائمة.
بعد دفن الصبية، مساءً، لوحظت نادية مخمورة جنب حانوت المشروبات، ولا أحد يعلم من أين جاءت. وبين يديها الساعة الفضية العتيدة... معروضة للبيع... وفيما بعد اتضح أن المغرفة نفسها قضت نحبها بهدوء في محطة القطار في الرابعة والنصف من عصر 5 يوليو. لمحتها حفيدتها الخائبة على مصطبة خلف مبنى المحطة. وربما لم تتعرف عليها رأساً لشدة السكر.
تولت صوفيا فاضلوفنا أمر الأطفال الخمسة وأخذتهم إلى منزلها. ظلت عابسة صامتة لا ترد على تساؤلاتي بشأن مصيرهم. ثم قالت في الأخير: «لا أظنك تتصورني قادرة على دور أم لخمسة أطفال وأنا في الثمانين». وأضافت بعد تردد: «أخذتهم لأن نادية لا بد وأن تأتي في يوم من الأيام ...» ولم يكن في صوتها ما يدل على ثقة كبيرة بما تقول...
-------------------
* يوري بويدا (1954) كاتب غير معروف بالمرة (للقارئ العربي). يعتبر في طليعة أدباء «الموجة الجديدة» و«ما وراء الحداثة» إلى جانب أشهر الروائيين المعاصرين في روسيا مثل ماكانين وبيليفين وسلابوفسكي ويروفييف وفارلاموف وغيرهم. له ثلاث وثلاثون رواية ومجموعة قصصية منها: «دون دومينو» و«الدم الأزرق» و«الأحراش» و«القلب الثالث» و«دار المجاذيب» و«عبور الأردن» و«السندباد البحري». ترجمت رواياته لحد الآن إلى عشر لغات ليست العربية من بينها. اشتهرت بخاصة روايته «اللص أنا، والقاتل أنا» (2012). وهي سيرة ذاتية متخيلة تتناول تعقيدات المجتمع السوفياتي في بداية النصف الثاني من القرن العشرين. بطل الرواية كاتب يعترف بأنه يتلصص على أفكار الآخرين وينتحلها ثم يقتلها عندما يسطرها على الورق.