«الشعر يفضحنا والشوق والالق»، بهذا الشطر الشعري، يستحثّنا عبد المحسن محمد لنمارس هوايتنا الفضلى في تعرية المعنى، وتلمّس القلق المستتر خلفه، ويدفعنا لنتجاهل إشكاليات عدة لعل أكثرها استفزازاً، ما أعرض عنه الشاعر مردوك الشامي في مقدمة ديوان عبد المحسن محمد «على قيد الوجع» (دار ناريمان للنشر): ما سرّ تعلقنا نحن الذين ارتضينا ركب الشعر بالنقاشات العقيمة؟ لماذا تأسرنا المسميات ونتلهى عن اللب مهما دسُم وثمُن؟! ما الذي يدفعنا نحو هوس التصنيف، بين شعر حداثوي رؤيوي وآخر كلاسيكي تقليدي؟ وبين نصّ ملتزم وآخر لا يرى في الشعر إلا فنيّته وبراعة خَلقه وتصويره؟ ليست قيمة القصيدة التصاقها بالواقع وبمفروزه الاجتماعي وحسب، كما تقول الأميركية لويز بوغمان، وليس الشعر أعمق وأبعد من هذا الواقع كما يرى آخرون، ولا ينحصر مفهومه بالومضات التي تختزل الوجود الجمالي الصرف!
إنّ القصيدة التي برع عبد المحسن محمد في الانتماء لأفقها، هي التأرجح الدائم بين ما يعيشه الشاعر من واقع وبين ما يتطلّع إليه من خلاص. إنها الكشف عن العالم الغامض خلف كل هذا الوضوح، وترجمة المسكوت عنه، المهمل المتروك، والعين التي تلتقط ما عمي عنه الآخرون.. وقد برع محمد في دوزنة اللاشعور محفزاً الفكرة، ومفتّحاً الرؤى. وكان في ديوانه إثباتاً حيّاً أن الشعر ليس فكراً صرفاً، ولا شعوراً مجرّداً، لأن الفكر ببساطة قابلٌ للنقض، خاضعٌ للدليل، طيّعٌ أمام النسخ والاستبدال، ولأن العاطفة أيضاً طاقة على عظمتها تبقى فانية، القصيدة سبحانها وحدها، الخالدة الخالدة.
ديوان محمد مائدة شهية، لكننا آثرنا أن نبحث فيه عمّا لم يقلْ، متتبّعين الظلّ، لأنّ المعنى الأشهى لا يسلمك نفسه بسهولة على قول ابن الأثير. سوداوية المشهد، وعمق المعاناة، وفداحة الجرح، والعاطفة الحزينة الغاضبة المتمرّدة أرخت وشاحها القاتم على ألفاظ الديوان وحقوله المعجمية، فلا تخلو قصيدة من معاني: الصلب والدمع والطوفان والمسافة والبلل.
من خلال كل هذا، يمكن تتبع إشكاليتين: إشكالية المنفى أو المكان (بين الهنا والهناك، والشيء واللاشيء) حاضرة بقوة اللاوعي الذي اختزنه الشاعر من حرقة وطنٍ يضيع، وأمة تخون. لم تنعكس المسافة على الصور والألفاظ فحسب، بل أيضاً على إحساس الشاعر منذ الإهداء: الفقد واليتم خسارة الأرض/الأم، والوطن/ الأب... ولم يعوّضه هذا التشظي والتمدد المتعمد الذي حرص عليه الشاعر في دول العالم العربي كنوع من التعويض. هو يعي في العمق أن لا عباءة تدفّئ إلا جلباب الوطن، هذا الانتماء الأول يحاصره مهما بعد. ويتضح ارتهانه للمكان جلياً في تكرار لفظة «حصار» وحدها مراراً ومراراً: «ليلي مدائن أوجاع تحاصرني/
فرّي إليّ فرار الموج للغرق».
الديوان مسكون بإشكالية المنفى وعلاقة الشاعر المتوترة بالمقدس


هكذا بلغة جزلة واضحة، وتراكيب بعيدة عن التعقيد وبقوافٍ معظمها مقيّد، يعلن عن رغبةٍ لا واعية في أن يُسمع صوته بعدما صمّ العالم آذانه عن القضية الفلسطينية ومعاناة أبنائها المشتتين. لا يتوقّف الشاعر عند السهولة والتأثير الموسيقي، فيعمد إلى القصص القرآني، ليشكل في كل قصيدة تعالقاً نصياً معها، وبالتحديد مع قصتيّ موسى وطوفان نوح، وهذا ما يؤكد ما ذهبت إليه من عقدة المكان والمسافة، فالشاعر غريق في اليمّ ولا أمّ لتنشل رماده المنصهر في الماء رمز الغرق، والشاعر كذلك غريب لا يجد سفينة نجاة تعيده الى بر فلسطين، والطوفان هنا بؤرة الحزن والحبر، جله اختناق الذات بدمعها!
مع كل هذا التناص القرآني الذي نجح الشاعر غالباً في توظيفه في نماء النص العضوي، تلوح الإشكالية الثانية: علاقة الشاعر المتوترة مع المقدس/ الله، أو ربما مع ممثلي الرب على الأرض. إن قراءة أولى تشي بخلفية الشاعر الدينية والثقافية. لكن قراءة أخرى تخبّر عن لومٍ مبطن واستهجان خفيّ، حيث يسائل الله عن سرّ صمته عن تفشي الظلم والقتل، وموت الحب والضمير وعن الاطفال وقود الشتات والضياع، عن الذين أوكلهم النطق باسمه، فطوّلوا اللحى وكشفوا العورات: يقول في قصيدة «عبد سيأكل ربه»: إبليس للتفاح يسجد مذ عصى/ هو يعبد التفاح بعد أن التحى!» ثم يختم: «قد قالها لي مرة وجعا أبي/ لا تستدلّ على العدالة باللحى».
وهكذا يكفر ديوان الوجع بكل شيء إلا بالشعر الذي يراه وسيلة انعتاق ووعي ودرب حرية، فيخشى أكثر ما يخشاه أن تضيع القصيدة وطنه/ البديل، يقول: «أخشاك ناسكة بالشعر كم كفرت/ عمر القصيدة مصلوب على قلقي».
وعلى الرغم من تشابه موضوعات الديوان والتفاف قصائده حول المعاناه والفقد، والمباشرة التي طغت مرات على شعرية القصائد العروبية تحديداً، استطاع عبد المحسن محمد أن يتحول الى فاعل تاريخي أمين يحمل لواء قضيتي الشعر والوطن، لأن لا سفير كالشعر ولا قنديل كالقصيدة، ولأن الشعر غالباً ما نجح حين فشل كل شيء آخر على قول فرويد.