بروليتاريّة إيرلنديّة عشقها ابن الثريّ البورجوازي الآتي من ألمانيا فتحت عينيه على مظالم الرأسماليّة. تبدو حياة فريدريك إنغلز (1895-1820) رفيق كارل ماركس الأهم وشريكه في صياغة المانيفستو الشيوعي (1848) مليئة بالتناقضات. هذا الثوري المُعولم المنحدر من أسرة بورجوازيّة بروسيّة ثريّة، أمضى معظم حياته في الثورات أو التنظير لها، وقد أنفق لأكثر من ثلاثين عاماً ثلث ما كان يكسبه من وراء عمله في معامل للقطن (كانت عائلته شريكة فيها) في مانشستر – مهد الثورة الصناعيّة ومسرح صعود الرأسماليّة الحديثة في بريطانيا ــ على مساعدة الرفيق كارل ماركس في مواجهة أعباء الحياة اليوميّة كي يتسنى لهما التركيز على التنظير لثورة البروليتاريا.
ورغم انحيازه للعمل الثوري منذ شبابه، لم يكن ليبتعد عن المشروبات الفاخرة أو صيد الثعالب أو معاشرة النساء الجميلات ذوات الشخصية القويّة تحديداً. لكن الأكثر إثارة من ذلك كلّه، كان ما كشف عنه مؤرخون محليّون في مدينة مانشستر، أن الرّجل ــ لفترات طويلة من إقامته الممتدة فيها لأكثر من 28 عاماً ـــ كان يحتفظ بموقعين للإقامة: أحدهما في منطقة بورجوازيّة يسكنها أثرياء المدينة، بينما يستأجر في الوقت ذاته غرفاً أو شققاً صغيرة داخل أحياء شعبيّة مكتظة ومتواضعة. يضاف إلى ذلك أنّ أغلب كاتبي سيرة إنغلز تجاهلوا البحث في أسباب تمكّن هذا الشاب الألماني المتأنق من التجول بحريّة داخل أحياء الطبقة العاملة البريطانيّة وجمع معلومات ثريّة عنها ليضمّنها كتابه الأيقوني الأوّل ــ عن حالة الطبقة العاملة في إنكلترا (1845) ـــ وهو الذي كأجنبي تبدو عليه علائم الثراء لم يكن ربما ليخرج من أحزمة البؤس تلك سالماً أو أقلّه محتفظاً بثيابه الفخمة.
لا تكتمل قصة إنغلز، ولا حتى السياق الكلّي لتطور الأفكار الشيوعيّة من دون ذكر من غفل التاريخ عن ذكرها: ماري بيرنز. فهذه الفتاة البروليتاريّة شبه الأميّة والمنحدرة من أصول إيرلنديّة، والتي يعتقد أنها كانت تعمل في مصنع القطن الذي كان والد إنغلز شريكاً فيه، أصبحت عشيقة فريدريك إنغلز يتوارى معها ليلاً عن الأنظار في شقق متواضعة يستأجرها غالباً بأسماء مستعارة في قلب الأحياء الشعبيّة الفقيرة من المدينة. لم يكن في تلك العلاقة أي تكافؤ اجتماعي أو ثقافي، ولم يرضَ عنها معارف إنغلز ورفاقه ــ بمن فيهم ماركس ــ، ولم يكن لها أن تتوّج بالزواج لأنها مؤسسة يمقتها صاحب كتاب «أصل العائلة والملكيّة الخاصّة والدولة» (1884). مع ذلك، فقد بقي العاشقان معاً لأكثر من عقدين إلى أن توفيت ماري ــ بسكتة قلبيّة في ما يبدو ــ عام 1863.

مغامراته معها في قلب أحياء الطبقة العاملة حول مانشستر فتحت عيني الثوري الحالم

لا يعرف كثيرون عن ماري بيرنز سوى أنها وشقيقتها ليديا (اشتهرت باسم ليزي) كانتا تعملان في إحدى المهن المتواضعة في مانشستر، وغالباً كعاملات مصانع. بأصولهما الإيرلنديّة، كانتا شديدتي الغضب على الاحتلال البريطاني لبلادهما، ولا سيّما بعد المجاعة الشهيرة التي تسبّبت بها الإمبراطوريّة الغاشمة وقضت على نحو مليون من الإيرلنديين الفقراء. وهناك دلائل على أن الشقيقة ليزي كانت ناشطة في العمل الثوري الإيرلندي، وقد أسهمت بالفعل في عمليّة هجوم جريئة نفذها ثوريون على موكب للشرطة في قلب مانشستر، فّر على أثرها اثنان من المناضلين الإيرلنديين المعتقلين. مغامرات إنغلز مع ماري بيرنز في قلب أحياء الطبقة العاملة حول مانشستر، فتحت عيني الثوري الحالم، الذي كان والده قد أبعده من ألمانيا للعمل في مصنعه الإنكليزي كي يترك حماسته الفائرة للثورة. مع بيرنز، عاين إنغلز عن كثب الأوضاع الحياتيّة البائسة للطبقة العاملة، والاكتظاظ والقذارة وفقدان الأمل وتردّي فرص الحياة مقارنةً بتلك الحياة الباذخة والأرباح الهائلة المستمرة بالتراكم التي كانت تحصّلها قلّة من البورجوازيين الرأسماليين البالغي الثراء ودائماً على حساب عمالهم المسحوقين. تركت تلك التجربة القاسية علامات لا تنسى على تصوّرات المفكر والمناضل الشاب عن أحوال العالم، رغم أنّه لم يكن غريباً عن شؤون العمال وطبقة البروليتاريا من خلال عمله في مصانع عائلته في ألمانيا. لكن أوضاع العمّال في مانشستر كانت لا تقارن من حيث ساعات العمل ـــ تجاوزت 16 ساعة يوميّاً ـــ أو تدنّي الأجور أو حتى التوسع في تشغيل الأطفال على نحو انعكس سلباً على طبيعة الحيّز المكاني الذي سكنته تلك الطبقات، وتسبّب في تدنّي معدلات الأعمار فيه إلى أقلّ من 28 عاماً مقارنة بضعف ذلك المعدّل في الأرياف. كما رافق إنغلز بيرنز في زيارة طويلة لبلادها الأم – إيرلندا – فشاهد رأي العين مساوئ الإمبرياليّة البريطانيّة عبر جولات متعددة لأنحاء واسعة من الجزيرة الحزينة، كما جاورا ماركس وعائلته لعدة شهور عام 1845 بينما كان يقيم في بروكسل حينها.
مع ذلك، لا تكاد ماري بيرنز تظهر في أي من السجلات الموثقة عن ميلاد الشيوعيّة لولا إشارات مهمة على قلّتها وردت في المراسلات المكثّفة – شبه اليوميّة – بين الرفيقين ماركس وإنغلز. ومن الواضح في تلك المراسلات أنه عقب وفاتها عام 1863، حدث ما يشبه سجالاً قاسياً نادراً بين الرفيقين عندما عاتب إنغلز رفيقه على طريقة تعزيته الفاترة له بموت ماري بيرنز، بينما انتقل مسرعاً في رسالته إلى شرح الظروف الماليّة الصعبة التي كان يعانيها وأسرته في لندن، متوقعاً من إنغلز أن يساعده لمواجهتها.
ورغم الحزن الشديد الذي يمكن تلمّسه في خطابات إنغلز في تلك الفترة تأثراً بغياب ماري بيرنز المبكّر، إلا أنه ما لبث أن أصبح على علاقة مع شقيقتها الأصغر ليزي التي عاشت معهما طوال فترة حياتهما المشتركة. وعلى الرّغم من ميل المقربين من إنغلز إلى الاعتقاد بأن تلك العلاقة كانت أقلّ توهجاً من علاقته بماري، وأنها نوع من التعامل مع الأمر الواقع للطرفين بحكم العشرة واحتياج كل منهما إلى وجود الآخر، فإن مصادر معادية لإنغلز اتهمته بأنّه كان زير نساء وأنّه أثناء علاقته بماري كان يلتقي نساء أخريات أحياناً وأنه لم يتورع حتى عن معاشرة الشقيقة الأصغر لعشيقته. ومهما يكن من أمر، فإن إنغلز العجوز انتقل مع ليزي إلى لندن وسكن في منزل يبعد دقائق مشياً على الاقدام من منزل ماركس، وقد اضطر بناءً على رغبة ليزي الأخيرة قبل مفارقتها الحياة بيوم واحد إلى أن يعقد قرانه عليها، لتموت في صباح اليوم التالي (1878) وهي تحمل اللقب الرّسمي السيّدة إنغلز. ويبدو أنه كان أكثر صراحة مع مجتمعه في ما يتعلق بعلاقته مع ليزي، وأوحى أحياناً في مراسلاته بأنّه كان يعتبرها كزوجة له، ليبقى وحيداً بعد رحيلها، وبعد رحيل صديق عمره كارل ماركس الذي توفي عام 1883... قبل أن يوافيه الأجل عام 1895 ويذرى رماده في البحر بناءً على وصيته.
سُئل إنغلز في شيخوخته عن طبق الطعام المفضل لديه ــ هو البورجوازي الآتي من قلب أوروبا ــ فكان جوابه: اليخنة الإيرلنديّة. كان ذلك دوماً طبق الفقراء الإيرلنديين التقليدي. لا شك في أن الشقيقتين ماري وليزي لم تشكلا فقط ذائقة المفكر الشيوعي الجليل للطعام، بل أيضاً تصوره عن العالم الذي تريد الشيوعيّة تغييره.