في إحدى مقابلاتها القليلة، تقول فروغ فرخزاد (١٩٣٤ـــ١٩٦٧): «الشعر بالنسبة إليّ أشبه بشباك يفتح وحده في كل مرة أتقدم نحوه. أقف على ناصيته، أرى، أغني، أصرخ وأبكي. أختلط بصور الأشجار، وأعلم أنه من الناحية الأخرى هناك مدى، وأنّ أحداً سيسمعني بعد مئتي سنة، أو من ٣٠٠ سنة خلت، لا يهمّ. إنها وسيلة للتواصل مع الوجود بمعناه الأعمق. لست أبحث عن شيء في ما أكتبه، أكتشف نفسي فقط. بعض القصائد أشبه بأبواب مفتوحة لا يوجد خلفها إلا فراغ مفزع. الأساسي هي «تلك الناحية الأخرى».
لكن هناك قصائد ليست بالشبابيك المفتوحة أو الأبواب المغلقة، بل هي طرقات، قصيرة أو طويلة، نتنزه فيها ذهاباً وإياباً ولا نتعب. إذا توقفنا خلالها، نكتشف التفاصيل التي لم نرها في الأسفار السابقة. يمكننا أن نتوقف لسنوات في قصيدة، وأن نكتشف أفقاً، مساحة، جمالاً، منظراً، إنساناً، أريد أن يأخذني الشعر من يدي ويعلمني أن أبصر وأشعر». بهذه الحساسية العالية تعاطت الشاعرة الإيرانية الأبرز في الشعر الإيراني المعاصر مع العالم، هي التي سعت منذ تفتحها الشعري على الوجود الى غزو مساحات أكبر من الحرية والمضيء نحو فضاءات من الإبداع وتفتح الطاقات الجمالية والإنسانية. ما لا يعرفه كثيرون أن فروغ فرخزاد زارت بيروت عام ١٩٥٦ لسبب لا نعرفه لفترة قصيرة جداً، وتركت انطباعاتها عن هذه الرحلة القصيرة عن شباك يطل على البحر في مدينة «هي بلا شك أجمل مدن العالم»، وعن نزهة على البحر. نصّ تأخذنا فيه بيدنا نحو «تلك الناحية الأخرى»





حين استيقظت، شُبِّه لي أنّ دخاناً كثيفاً قد اخترق مقصورة الطائرة. عرفت بعدها أنّه دخان السجائر. رأيت المسافرين ينظرون الى الخارج، كلٌّ من كوّة مقعده. أذكر أن أمي قالت: «أخشى ألا تَصِلي معافاة سليمة».
لكن قلقي كان عابراً وضَحْلاً. حين ألقيت أنا أيضاً بنظرة من كوة مقعدي، لم أر إلا النور. كنا فوق بيروت. كأنَّ المدينة تحترق في اللهيب الأصفر للمصابيح. تجمعت الأضواء ولمعت المدينة مثل عيون الذئاب في ليل الصحراء. هذا البريق كان مغلَّفاً بدائرة من السواد الكثيف والمركَّز. أُجبرنا أن نشد أحزمتنا ثانية لأن الطائرة بدأت بالهبوط. شعرت أنهم كانوا يسرقون منّا شيئاً ما بحرماننا من رؤية هذا السحر المُذَهَّب الذي يتلألأ ويبرق في الخارج.
حين وضعت أقدامي فوق أرض المطار، لست أدري لماذا تذكرت السنوات تلك التي عشتها في الأهواز. الهواء هنا أكثر انتعاشاً لكنه لزجٌ قليلاً. انتابني وجع في قدميّ، في جواربي التي أضحت مزعجة. أخذت مسافة من مرافقيّ وأمام المضيفة التي كانت تقودنا، خلعت نعليّ ووضعتهما تحت إبطي. تبسمت المضيفة وقالت شيئاً لم أفهمه قَط. بدأت قدماي برشف الرطوبة والنداوة اللذيذة للأرض.
لطالما أحببت أن أمشي عارية القدمين. طفلةً، لم أنتعل الحذاء أبداً ولو ترك الأمر لي، كنت سأجد أقصى المتعة في المشي حافية في الشوارع.

فندق ريزيدانس

في المطار، لم ننتظر كثيراً، خاصة أن العجوز الألمانية كانت ستموت من التعب. بعد فحص جوازات السفر، أخذنا الباص الى المدينة. في الظلام، كل شيء بدا لي جميلاً. أحياناً، برؤية ظلال الأشجار، كنت أود معرفة أسمائها وفصيلتها، لهذا كنت أمد برأسي من النافذة وأنظر في البعيد، لكن الباص كان يجري بسرعة، ويتخطى كل ما يأخذ لوناً أمام أعيننا. أخيراً، الطريق الذي يصل المطار بالمدينة، انتهى أمام فندق فخم كان اسمه «اوتيل ريزيدانس».
أن أمضي الليل في مكان كهذا كان يزعجني. كنت سأكون أكثر سعادة لو خرجت للنزهة قرب البحر وتمددت على الرمل. هناك، سأكون حرة، قد أصرخ، أغني وأركض. لن يكون بمقدور أحد أن يراقب تصرفاتي ويزينها في الميزان السخيف للعُرْف. في الغرفة، الشيء الأول الذي استرعى انتباهي هو شُباكٌ يطل على المُتَوسط: لا أعرف لماذا شعرت بالسعادة تغمرني حين رأيته. عبر شُباك يمكننا تثبيت الأفق. بين الجدران الأربعة للوقت، وحده الشباك يصلنا بالعالم الخارجي. شباك على الضوء، على الشمس، على كل ما هو جميل ومرغوب. لو لم يكن هناك من شبّاك، هل كان بمقدورنا احتمال هذا الظلام الكثيف الذي يحاصرنا؟ وغرفتي كان لها شباك على بحر بيروت. باب آخر يفتح على شرفة رومانسية مع جدران مكسوة بورود بنفسجية متسلِّقة. عطر هذه الورود كان يحتل غرفتي عبر النافذة. وحين فتحت الباب، كانت الورود تحييني، فداعبت أوراقها بأصابعي. الهواء كان صافياً وشفافاً وأضواء الشاطئ في البعيد كانت أشبه باللؤلؤ المطرز على مخمل الليل.

كانت النجوم قريبة. ظننت أني لو مددت يدي، لاستطعت أن أتلمس حرارتها

بعد العشاء، صرت أقرأ لمرافقيّ الطالع في فناجينهم. حتى ولو لم أكن ضليعة بالأمر، فإن الأميركي كان بمنتهى الذهول وطلب مني أن أخبره بالمزيد عن مصيره. بعدها، قررنا أن نذهب للنزهة قرب البحر، وتطوع أحد عمال الفندق، بعدما أنهى نوبته الليلة، أن يكون لنا دليلاً. لبست حذائي المريح، وحين أردنا الانطلاق، انخفض عددنا الى النصف. كان شعري لا يزال مبللاً بعد الاستحمام، وحين كان الهواء يمر عبره، كنت أشعر بالسرور، كما لو أن يداً تمسده برفق.

البحر

استعرنا طرقات ضيقة وملتوية مزروعة بمساكن بجدران ملونة وحدائق بأسوار منخفضة. قبل الوصول الى البحر، انسحب الطالب الايراني الذي كان برفقتنا. الدليل والأميركي، وهو الشخص الوحيد المتبقي في النزهة، كانا على مسافة بعيدة مني. كنت أمشي بكثير من البطء والخفّة. ثمة شيء في الهواء كان يصيبني بالدوار. الشوارع فارغة وظلالنا تنعكس في كل الاتجاهات على الأسفلت الذي بدا مبللاً بفعل الرطوبة ورذاذ الماء. بدأت بفعل حركات غريبة بيديّ ورجليّ، وصرت أتسلى برؤية ظلي يقوم بالشيء ذاته.
الآن، بتُّ أسمع عن قرب هدير البحر. ما كان يهتز أمامنا ويمتد في البعيد كان البحر. جلست فوق الرمل. تقدمت الأمواج تحت قدمي. أعرت فخذيّ للأمواج وحدقت في البحر الذي طالت قامته في أحداقي وضاع في الظلمة. ترَكنا الدليل بعدما كتب لنا عنوان الفندق ودلنا على طريق العودة. الأميركي كان أقرب للنوم منه الى اليقظة، لكن احترامه لـ «الإيتيكيت» كان يمنعه من أن يتركني وحدي. قلت له إنّ البقاء وحيدة لا يزعجني البتة، وإني أعرف طريق العودة أكثر منه ربما. ابتسم، مغتبطاً، كأنه لم يكن ينتظر إلا إشارتي. راقبته للحظة في العتمة. لا أعرف لماذا شعرت نحوه بالشفقة. لطالما فضلت الجمال على النوم. كان يمشي، بأكتاف متساقطة وأذرع رخوة، مسرعاً نحو سريره وهو محقّ. لقد قال لي بنفسه إنّ النوم والطعام هما أجمل الأشياء للعجزة. بقيت وحدي. ألقى الليل بثقله عليّ وأحسست أن عينيّ تلمعان. في البعيد، كان البحر يلمع مثل نيلوفر أبيض في وسط مستنقع. كانت الأمواج تتشابك ونشيد يخرج من بطونهن ويرتقي للسماء. في هذه اللحظة، أحسست حركة الموج المتكررة في قلبي. بعدها تمددت فوق الرمل وصرت والبحر كُلّاً واحداً. كانت النجوم قريبة. ظننت أني لو مددت يدي، لاستطعت أن أتلمس حرارتها وضوءها. كانت تتدحرج نحوي، فتذكرت ليالي الألعاب النارية، والمفرقعات التي تتحول فجأة الى عناقيد دالية ذهبية وتهبط الى الأرض برفق. في البعيد، على ظهر مركب، ظننت بأني أرى جسد امرأة ترقص وسط الأشباح والظلال. كان الأمر كناية عن كاباريه بحري، واستطعت أن أتبين حركات الراقصة. تذكرت أفلام سامية جمال. مللت بعدها وأردت أن أُخرج نفسي من هذه الفضول التافه. كانت تنورتي مبللة، أخذت طريق العودة وكنت تائهة في العتمة، نسيت أنه يجب عليّ العودة الى الفندق. هذه الليلة أشبه بحلم نهايته عصية على الفهم.
رغبت بأن أتحول الى ذرّة رمل، وأن أقضي عمري هنا. حين عدت للفندق، ورغم تعبي، لم أقوَ على النوم أو الكتابة. أطفأت النور ثم وضعت رأسي في وسادتي ورحت أبكي كالأطفال. في الصباح، استيقظت على صوت الهاتف: يجب أن نرحل. كان البحر غارقاً في الضوء، ولم أر إلا اللون الأزرق حتى اللانهاية. مجموعة من الجنود الأمريكيين كانوا عائدين من نزهة ليلية، متعتعين من السُكر. بعد وداعنا لعمال الفندق، أخذنا الباص ذاته للمطار. الآن يمكنني أن أرى كل شيء في ضوء النهار. لا شك أن بيروت هي من أجمل مدن العالم، ممتلئة بالألوان الساحرة والحيّة، كأننا أمام لوحات رافاييل أو المناظر التي وصفها لامارتين. لصقت وجهي بالزجاج ورحت أنظر الى الخارج. كان السائق يلهو بالمقود. أظنه كان جذلاً، لأن الباص كان يرقص الفالس ويترنح يمنة ويسرة. السيدة العجوز ارتعبت واحتجّت ولم أفهم شيئاً من هذه الرقصة المستمرة للمركبة والتصرفات المتهورة للسائق. أخيراً، وصلنا الى المطار، وبعد إجراءات السفر الروتينية، أقلعت الطائرة في الثامنة صباحاً. كنا فوق المتوسط والشمس عالية في الأفق. للسماء بأكملها لون الذهب، والبحر الذي كان يذوب في الأسفل، كان أشبه بسماء أخرى.
أحياناً، نقطع غيوماً بيضاء ومسجونة بأطر مذهبة، غيومٌ تشبه أحلام طفولتنا. لم أكن أريد أن أترك مكاني لأحد. لا أعرف لماذا في هذه اللحظة فكرت بالرب. يمكن لأننا كنّا في الأعالي، وعظمة هذه السماوات التي نخترقها أكثر فأكثر، قد أوحت لي بشعور كهذا. في كل مرة كانت الغيوم تختفي، كان يمكننا أن نرى البحر في الأسفل، فاتحاً فمه ينتظرنا في زرقته اللانهائية. كان بريقه أشبه بالماس، ولونه بنفسجي تارة، ويشحب أحياناً تحت الشمس.

* المرجع: «كتاب الليل المضيء، رسائل ومقابلات فروغ فرخزاد الكاملة» ــــ Lettres Peranes ـــ أركوي، فرنسا، ٢٠١١ ــــ ترجمة جلال علوينيا.