جادلت منذ سنوات في أن مصطلح «الأمّيين» في القرآن هو الاسم الذي كان يطلق على المسلمين، وعلى الأحناف عموماً، قبل أن يتبلور مصطلح «المسلمين» ويرسخ. أما النظرية السائدة فتقول إن «الأميين» مصطلح يقف في معاكسة مصطلح «أهل الكتاب». بذا فالأميون هم من لا كتاب لهم من مشركي مكة والعرب. ويُستند عادة إلى الآية 146 من سورة البقرة لتأييد هذه النظرية: «ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائماً ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين» (سورة البقرة: 146).

والآية تتحدث عن رفض يهود يثرب سداد ديون للمهاجرين المكيين إلى المدينة، قائلين لهم: ليس علينا في الأميين سبيل. وقد فهمت الغالبية أن هذا يعني: أننا لن ندفع ديون المشركين. بذا فكلمة «الأميين» في الآية تعني: المشركين العرب.
وهذا في الحقيقة تفسير غير ممكن إطلاقاً من ثلاث نواح:
الأولى: أنه يناقض الخبر بكل رواياته. فالخبر يقوم أساساً على أنّ بعضاً من المهاجرين، كان قد داين اليهود وقت أن كان مشركاً. ولو كان اليهود يقولون بالفعل: «ليس علينا في غش العرب حرج»، كما يدعى، لما كان هؤلاء العرب، مكيين وغير مكيين، قد أعطوهم فلساً واحداً كدين من الأصل. فكيف يمكن لك أن تداين من يعلن جهاراً نهاراً أنه لن يرد لك دينك، وأن لا ذمة لك عنده؟!
الثانية: أنّ هذا التفسير يخالف المنطق. إذ كيف لليهود أن يعيشوا بين العرب الوثنيين إذا كانوا يعلنون بوضوح أنهم لن يحفظوا لهم أمانة ولا عهداً؟ وكيف لهم أن يتعاملوا مع الأوس والخزرج في المدينة، وهم يحملون وجهة النظر هذه؟ إن هذا لهو الجنون بعينه.
الثالثة: أنّه يخالف الحقائق التاريخية التي نعرفها. فقد عاش اليهود بين مشركي يثرب، وفي كل الجزيرة، وتعاملوا معهم في كل القضايا الاقتصادية بشكل عادي. عليه، فهذا التفسير باطل تماماً، ولا يمكن الالتفات إليه من وجهة نظرنا.
أما التفسير الأسلم لهذه الآية، فهو أن العقود التجارية، سواء كانت عقود دين أو غيرها، كانت في تلك الأزمان تنطلق من أرضية دينية دوماً. فإذا نُزعت هذه الأرضية بطل العقد تماماً. يعني: أنا عاقدتك كتابع لدين معين، وحين خرجت من دينك إلى دين آخر فقد بطل العقد. خروجك من دينك أخلّ بالشرط الأول للعقد. بذا لم يعد من عقد بيني وبينك. وهذا في الواقع ما حصل مع المهاجرين. فقد كانوا على دين مكة، ثم تحولوا إلى «أميين» بعد بعثة الرسول.
وهذا في الوقع ما يقوله لنا عدد من المصادر العربية: «قال الحسن وابن جريج ومقاتل: بايع اليهود رجالاً من المسلمين في الجاهلية، فلما أسلموا تقاضوهم بقية أموالهم، فقالوا: ليس لكم علينا حق، ولا عندنا قضاء لأنكم تركتم دينكم انقطع العهد بيننا وبينكم» (الزيد، مختصر تفسير البغوي).

كان الأحناف ومن ماثلهم
يدعون في مكة بالأميين
وهكذا يتضح الأمر: «لأنكم تركتم دينكم، انقطع العهد بيننا وبينكم». الدين هو شرط أي عقد وأرضيته. من دون هذا الأرضية يفسد العقد ويبطل.
ويورد القرطبي الخبر ذاته، لكن من دون أن ينسبه إلى مقاتل أو غيره:
«يقال: إن اليهود كانوا قد استدانوا من الأعراب أموالاً، فلما أسلم أرباب الحقوق قالت اليهود: ليس لكم علينا شيء، لأنكم تركتم دينكم فسقط عنا دينكم» (القرطبي، تفسير القرطبي). وهكذا في الحقيقة اختصار جميل جداً: لأنكم تركتم دينكم، سقط عنا دينكم. سقوط الدِين يؤدي إلى سقوط العقد، أي الدَين. أما الزمخشري فيختصر قائلاً: «وقيل: بايع اليهود رجالاً من قريش، فلما أسلموا تقاضوهم، فقالوا: ليس لكم علينا حق حيث تركتم دينكم. وادعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم» (الزمخشري، الكشاف). أي ادعوا أن هذه القاعدة موجودة في دينهم.
إذن، أسقط يهود يثرب دين المهاجرين لأن المهاجرين أسقطوا دينهم القديم، دين اللات والعزى ومناة، وصاروا «أميين». لهذا قال لهم يهود يثرب «ليس علينا في الأميين سبيل»، أي أننا لم نأخذ ديناً من «أميين» كي نرد لهم ديناً. لقد استدنا من أناس يتبعون دين مكة القديم، وهؤلاء لم يعودوا موجودين. بناء عليه، فالأميون هو اسم الدين الذي تبعه المهاجرون بعدما تركوا دين مكة. وهذا الدين هو الإسلام ذاته، لكن قبل أن يتبلور مصطلح الإسلام والمسلمين. طبعاً، أغلب الظن أن من اقتبسنا منهم أعلاه فهموا عكس ما نفهمه نحن. أي فهموا أن المهاجرين تركوا دين الأميين الجاهلي، وأصبحوا مسلمين. لكن هذا غير ممكن. فلو أن الأميين هم المشركون، لكان لليهود معهم سبيل. فهم قد عاقدوهم من قبل وهم في مكة. بذا فالأميون في الآية هم المسلمون. واليهود يقولون لهم: نحن لم نتعاقد مع أميين كي نرد لهم دينهم، بل تعاقدنا مع مشركي مكة، أتباع اللات ومناة، وهؤلاء لم يعودوا موجودين كي نرد لهم دينهم. لكن هذا الفهم المعاكس لا يؤثر على صحة القاعدة، قاعدة أن الانتقال من دين إلى دين يبطل العقود.
بذا يمكن الافتراض أن الاسم (الأميين) كان يطلق على الشيع الإبراهيمية في مكة، أي على الأحناف ومن ماثلهم، وعلى من تبع النبي محمد، وأغلبهم من هذه الشيع. وكان لهذه الشيع كتب تنسب لإبراهيم، وتسمى صحف إبراهيم «إن هذا لفي الصحف الأولى، صحف إبراهيم وموسى» (سورة الأعلى: 18-19). ويؤكد لنا ابن النديم في الفهرس أنه قرأ بعضاً من هذه الصحف القديمة، ومن بينها كتب للأحناف، أتباع الديانة الإبراهيمية، في كتاب وصله وكان موجوداً في ما يبدو في مكتبة المأمون في وقت ما: «قرأت في كتاب وقع إلي، قديم النسخ، يشبه أن يكون من خزانة المأمون، ذكر ناقله فيه أسماء الصحف وعددها والكتب المنزلة ومبلغها- وأكثر الحشوية والعوام يصدقون به ويعتقدونه- فذكرت منه ما تعلق بكتابي هذا. وهذه حكاية ما يحتاج إليه منه على لفظ الكتاب: قال أحمد بن عبد الله بن سلام، مولى أمير المؤمنين هارون- أحسبه الرشيد-: ترجمت هذا الكتاب من كتاب الحنفاء وهم الصابيون الإبراهيمية الذين آمنوا بإبراهيم عليه السلام وحملوا عنه الصحف التي أنزلها الله عليه» (ابن النديم، الفهرست). وهذا النص مهم جداً. وقد أشرت إليه في كتبي السابقة. وأهميته تكمن في أنه يحدثنا عن وجود «صابيين إبراهيميين»، أي عن وجود صابئة ذات طابع إبراهيمي. وهذا ما يفسر قول مشركي مكة عن النبي: «لقد صبا محمد»، وما يفسر وضع الصابئة ضمن أهل الكتاب.
أما أصل تسمية «الأميين» بهذا الاسم، فيوضحه وصف القرآن لإبراهيم نفسه بأنه «أمة»: «إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين» (سورة النحل: 120). إنه «أمة» بذا فأتباعه «أميون». ووصف إبراهيم بالأمة يعني أنه لم يتبع ملة رسل قبله. فملته كانت بدءاً وتأسيساً. وكل من كان كذلك فهو أمة: «الأُمَّةُ الرجل المتفرد بدين كقوله تعالى: إن إبراهيم كان أُمَّةً قانتاً لله» (لسان العرب). لهذا كان «كل من تسنن بسنة من غير نبي كأمية [بن الصلت] وورقة [بن نوفل] وابن عمرو فهو أمة، والجمع من كل ذلك أمم» (ابن سيده، المخصص)
إذن، فقد كان الأحناف ومن ماثلهم يدعون في مكة بالأميين. ولم يكن لهؤلاء رسول ينطق باسمهم حتى جاء محمد بن عبد الله: «هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة». من بين الأميين انبثق الرسول. وبينهم نشأ الإسلام. وقد سمي المسلمون باسمهم في البدء، أي أنهم حملوا اسم «الأميين». لكن تدريجاً أخذ مصطلح الإسلام يرسخ، خاصة أنّ عدداً من الأحناف الأميين أخذوا يبتعدون عن الرسول وأتباعه، مثل أمية بن أبي الصلت، الذي كان أمياً حنيفياً، لكه لم يصر مسلماً.
* شاعر فلسطيني