الثانية ليلاً، مرت العربة من هنا قبل قليل، أظنها مرت لسنوات، يمتد الزمن حتى إنه لا يتوقف، يرجع إلى الخلف وإلى الأمام، حتى أراني شخصاً آخر بعيداً عن هذه النقطة، خلفي الماضي وامرأة ساذجة، وأمامي المستقبل وامرأة لا أعرفها، يجلسون في أماكنهم، يعمل الحشيش فَعلته فأشعر بهم منتشين، محلقين في فضاءٍ آخر، طائرين كما الأحلام، أنا كنت طائرة معهم بالعدوى.
السيارة تخترق الشوارع الخاوية، حتى إنني كنت أسمع كل شيء، سماع نقنقة ضفادع المصارف ممتزجة بهدير الموتور الذي يئنّ من حرارة الحديد والصُحبة التي فضلت قضاء الليلة في التسكع واللفّ في شوارع القاهرة كلها، بداية من حلوان وانتهاءً بصحراء أكتوبر، وخلالها بالطبع كان لا بد من المرور على الديلر للحصول على زاد الرحلة.
طارت السيارة من ميدان التحرير في بداية رحلتنا، وها نحن نلف في أماكن لا أعرف أنها موجودة بالأساس. يقرر أبو شامة كسر الصمت ويشغل الكاسيت، ينبعث صوت أم كلثوم على أنغام صاخبة، تشبه أنغام الأغاني الأجنبية، هذه هي أم كلثوم العصرية، تقول هذه ليلتي ويصاحبها صوت الدرامز الصاخب، يتكرر صوتها عشرات المرات، ينقطع ويمتط ويتكرر مرة أخرى، وديار قديماً ديار، وديارٌ، ودياااارٌ، وديارٌ، تحولت أم كلثوم إلى مغنية مهرجانات، يهدأ صوتها من حين لآخر، ويكتسب بحّة معدنية، يتراقص الشباب، ويتبادلون سيجارة الحشيش، أنا وحدي أتكوم في ركن السيارة، أتفرج عليهم، وأستمع للأغنية بحرص، تعود أم كلثوم إلى أصالتها، وتدندن جملتها الأسيرة «سوف تلهو بنا الحياة وتسخر...». ينفث إكس الدخان ويصدر شخرة ممطوطة، ويغني بأسى مع أم كلثوم «سوف تلهو بنا الحياة وتشخر .. وتشخر يا ستّ». تهتز السيارة من الضحك، تهتز وتفرقع أيضاً، ثم تتوقف مطلقة صريراً حاداً، نجد أنفسنا في وسط الطريق الدائري، توقفت السيارة بسبب فرقعة الكاوتش، يوقف إكس الأغنية، نخرج جميعاً ونحاول تحريك السيارة إلى جانب الطريق، تدفع النساء من الخلف، ويحرك إكس وأبو شامة من الأمام، ننجح في الوصول، ويعمل أبو شامة على إصلاح الإطار، إكس يجلس بجانب الكوبري، أراه يخرج شيئاً من جوربه ويضعه في فمه، تسأله البيضاء عما حدث، أقترب أنا والسمراء لنشترك في الحديث، يقول إن السيارة انفلتت منه فجأة، لأول مرة أراه متلعثماً ومرتبكاً، كان يحكي عن وجه رجل رآه في المرآة، رأس رجل مذبوح والدم نافر من عروق رقبته، يقسم أنه رأى طرطشة الدم على زجاج السيارة، ربّتت البيضاء كتفَه، بينما انفعلت السمراء وصرخت في وجهه، هي ليلة سودا من الصبح، تقولها، فتحتضنه البيضاء، تحتضنه، ولا أصدق أنه يبكي.
ألتفت لأرى الدم على السيارة، فأراها نظيفة كما هي، أبو شامة يفك الإطار ويربط واحداً جديداً، بعد أن ينجح في إصلاحها، تتبدل الأماكن، يقود هو السيارة، وتجلس السمراء بجواره، يجلس إكس والبيضاء بجواري، يغفو على كتفها، ويحل الصمت مصاحباً له الإحباط هذه المرة.
تسير السيارة بكآبة، تلف السمراء ببرود سيجارة حشيش أخرى، وتناولها للجميع بالتناوب، يلتقط إكس السيجارة وهو نائم، يفتح عينيه وينفث الدخان، يبدأ في الدندنة من جديد، يعطيني السيجارة فأمررها من دون أن أشرب منها إلى أبو شامة، لا أتبين ما يقوله إكس، يتكلم بصوت واهن، لكن ينضم إليه الجميع، يرددون نشيدهم؛ الحياة ليست كما تبدو، الفوضى تشبه النظام بالضبط، ذاتي في المواجهة، والسُلطة بنت وسخة طوال الوقت، أنا حالم أيها العالم ولكنني لستُ بمفردي، معي كل الأشباح والملعونين على طول التاريخ.
يشكلون كورالاً صاخباً على الطريق الفارغ تقريباً، الدندنة تتحول إلى غناء، والغناء يتحول إلى صخب يهز العربة ثم صراخ يجرف مشاعرهم إلى الحافة، وسط قهقهات لا تتوقف، تسرع السيارة مرة أخرى، تعود إلى حالتها الأولى المكررة، حالتها المجنونة، ينتهي الطريق ليبدأ آخر، دندنتهم لا تتوقف، أحاول الغناء معهم، تنجح حنجرتي في إفلات بعض الأصوات، الفوضى تشبه النظام بالضبط، أنا حالم، ولكنني لست بمفردي، يبدأ الطريق في الاتساع بشكل هائل، تنجرف السيارة إلى الصحراء، تنحرف بحدة وتتوقف في مكانٍ مهجور، ويعلن أبو شامة أننا وصلنا.
نخرج جميعاً، ويعطينا أبو شامة غطاء السيارة لنفترشه على الأرض الرملية، يتركون لي هذه المهمة، أنتقي مكاناً وأنظفه من الصخور الصغيرة، وأفترش الغطاء القماشي، ونجلس في دائرة، يضعون هواتفهم في المنتصف مشغلين أنوارها، يتجه رأس إكس إلى السماء، أنظر معه في الفضاء، أرى نجوماً لا حصر لها، سماء سوداء مرصعة، أستطيع أن أضع نفسي مع النجوم لأطل على الصحبة الجالسة، فأرى دائرة داخل دائرة، وكهرباء تشع من الأجسام المعتمة.
يخرج أبو شامة حبوباً ملفوفة في منديل من جيبه، يناول كل منا حبة، يحثني على التجربة، ويطمئنني بأن هذا النوع فاخر ومختلف عن الحشيش الذي ضيع صوتي، أبلع المخدر كما يفعلون، وبعد ثوانِ أشعر بارتعاش في أطرافي، أشعر بالنمل يسري في أعصابي، يتحول النمل إلى كهرباء تتصاعد من نهايات نهايات الأعصاب «لالالالالالا». هناك صوت عويل ناعم يتقدم في أذني، طنين خفيف، يتحول الطنين إلى ريشة تلاعب عيني، ريشة بيضاء تتحول إلى أشباح رمادية تتراقص بحرية على جانبي دماغي، أشباح تمارس الحب عند طرفي عيني فتلِد الآلاف منها، تتكاثر وتخرج من الضباب، ثم تتوقف الأشباح، تتراجع إلى مكانها، أشعر بالهدهدة التي تسبق السَكينة بعد وصول المخدر إلى المُخ، ثم فجأة أسمع صرخة مدوية تغرز الأشواك والإبر في مقدمة الرأس تماماً.
بعدها سكن كل شيء، توقف وتجمد في مكانه، كنت أراهم كائنات هلامية، تنزاح أرواحهم، تخرج وتعود إلى أجسادهم مرة أخرى. بعد هذا الشعور الفريد، ابتهجت وشعرت بالانبساط، فأخرجت الكاميرا لألتقط لهم صوراً بأشكالهم الخفيفة الجديدة، يطلبون التقاط صورة جماعية، فأنضم إليهم، يضع إكس يده على ظهري، لكني أزيحها برفق، أبتسم ونلتقط الصورة، أشعر ببرودة رطبة خاصة مع فستان المرأة المفتوح الذي أرتديه، أحاول تغطية رجلي بيدي لكن لا فائدة، ألاحظ عيني إكس تلازمان رجلي. أفهم ما يريده، لكني لا أستطيع التفاعل معه، يحركني ناحيته شعور بالنفور لا أفهم خلفيته، يزيد إصراره بالتواجد بجواري، لكن السمراء تتدلل عليه فيجاريها. أعرف أنها تلاحظ ما يفعله، فتوجه ناحيتي نظرات الكراهية.
أرى أبو شامة في مواجهتي، أندهش من هذه المسافة التي بيننا، أتحاشى وجودي بالقرب منه وهو أيضاً، تبقى البيضاء وحدها محايدة التعامل معي. يضيقون الدائرة فيصبحون قريبين مني، يدخنون السجائر، فيضيع الدخان في الصحراء، يحكي أبو شامة عن رحلة قديمة له في صحراء المغرب، يقول إنه كان طفلاً صغيراً، خرج في رحلة مع أبيه، ومجموعة من الخادمين، بينهم امرأة، وإنهم تفرقوا، لكن هو ظل مع أبيه الذي افترش الأرض ونام، هو ذهب ليبحث عن الخادمة، فوجدها مع أحد الرجال وراء صخرة كبيرة، كانا عاريين من الأسفل فقط، والرجل يضاجع المرأة وهما واقفان، يقول كيف أن الرجل كان يتحرك بسرعة مثل الديك وكيف أزاح المرأة بعنف عندما رأى الطفل الصغير أمامه. يسرد أبو شامة وقائع فضيحة الرجل والمرأة بسببه، ويضحك، ويضحكنا معه.
وأنتِ؟! أبو شامة قطع حديثه وسألني، أفهم أن السؤال عن حياتي بالكامل وليست رحلتي إلى المغرب، لأنه ليس لي رحلة إلى أي بلد، حاولت التملص، وضعت يدي على حنجرتي، لكنه أصرّ، تكلمت بصوت يشبه الفحيح، أقول لهم إني أعيش الآن مع امرأة غريبة، وإنني أبحث عن عمل، تقاطعني السمراء «وقبل كدة؟»، لم أفهم أبداً الأسئلة التي تدور حول الماضي، أنا أصلاً أنساه بشكل مريع، أردت أن أعيش وحدي فتركت كل شيء وعشت وحدي، جاوبتها «عادي، معرفش»، «يعني إيه» تقول البيضاء، فأتجاهلها، أدير وجهي ناحية السمراء، فتمد البيضاء يدها وتمسك وجهي، وتحركه ناحيتها وتسألني «وإنتي بقة يا بطة نمتي مع الحلو ده وإحنا مش موجودين». وتشير بعينها ناحية أبو شامة، أفهم أنه قال لهم ما حدث بيننا، هو عدّل وجهه ناحية إكس كأنه لا يسمع، فنظرت إليها بتحدٍّ ولم أنطق، ضحك إكس وقال لا يهمّ، لا يهم، ثم لفّ يده حول ظهري، سحبت يده وألقيتها عليه بعنف، فخبطت يده أنفه، هذه المرة كانت مواجهتي معه أمامهم جميعاً.
لم أكن أتوقع رد الفعل الذي حدث، لم أفهم إلا وأنا مكومة تحت رجليه وهو يلطمني، يصرخ ويقول «هموتها». أشعر بالكفوف تهبط على وجهي ورقبتي، انضمت إليه الفتاتان، يضرب بعنف وتضربان معه، يلكز برجله وبيده، شعري يُشدّ بعنف إلى الخلف، أشعر بأني على حافة الموت بالفعل، هموتها، فتهبط قبضة مضمومة هبطات متتالية على رأسي. شعرت بأنّ رأسي ينشق نصفين، وغامت الرؤية، قبل أن أغيب تماماً، انغرس شيء في عيني، استطعت أن أتبين وجه «أبو شامة» يبتسم ويمسك سكيناً ويقربه من عيني، ثم رأيت ملاكاً أبيض، عيونه غائرة وفي فمه وردة.

* كاتبة مصرية ــ مقطع من رواية «حشيش سمك برتقال» («دار الساقي» بمنحة من «صندوق الثقافة العربي/ آفاق»)