عندما سُئل الكاتب الأميركي جورج سوندرز (1958) عن طريقة تنظيمه لكتبه، أجاب بأنّه يحب تركها مفروشة في كل مكان، نصف مقروءة. يذهب إلى مدينة أخرى، يشتري نسخة جديدة، يُضيّعُ هذه النسخة في مكان ما، يعود إلى بيته، لا يستطيع تحديد مكان النسخة الأولى، فيشتري نسخة ثالثة، سيدلقُ عليها بعضاً من القهوة وهو يقرأها.عند سوندرز، هناك دائماً إجابة ساخرة تنتظر الخروج.

مثلاً قبل روايته الأولى «لِنكُن في الباردو» (بلومسبيري ـ 2017)، كان سوندرز يعتبر نفسه «بيوريتانياً» متعصّباً للقصة القصيرة، هو الذي صار يُقدَّمُ في السنوات الأخيرة كمُعلّمٍ للقصة في اللغة الإنكليزية. «أنا أكتب رواية؟ أبداً...» يُردّد في برنامج تلفزيوني، ساخراً من جملته الأثيرة، لكنّه ارتكب هذا الفعل وهو على مشارف الستين، مما جعله يُتوّج بجائزة «مان بوكر» لهذا العام.
اكتشف سوندرز القصة، كجنس أدبي جاد وصارم في منتصف الثمانينيات، عندما كان يتسكع بين أعمال صغيرة وحفلاتٍ كبيرة في بلدته بالقرب من شيكاغو، بلا عمل ثابت. في إحدى الحفلات، وجد إعلاناً في مجلة «بيبول» عن ماستر في الكتابة الإبداعية في «جامعة سيراكوس-نيويورك» تحت إشراف ريموند كارفر، أهم قاص أميركي في نهاية القرن العشرين، وجاي ماك-آينرناي، الروائي الشاب الذي اشتهر بروايته «برايت لايتس بيغ سيتي».

شخصيات غريبة سحقتها الرأسمالية ومجتمع الاستهلاك

لم يتردّد سوندرز لحظةً. يقول عن تلك الفترة: «كنت يائساً فعلاً، حدّ أن والدي الذي خسر تجارته، كان يقول لي: جورج هل فكّرت في الانضمام للجيش؟ لقد كان يريد التخلّص مني». سجّل سوندرز في المنحة، وتمّ قبوله، ليلتحق بنيويورك وفي جيبه 119 دولاراً.
في تصريح شهير لماك - آينرناي عن ريموند كارفر، يقول: «اكتشاف نثر كارفر بالنسبة لجيلي، سبّب لنا صدمة شبيهة بالصدمة التي سبّبتَها، قبل نصف قرن، جُمل همنغواي المصقولة». سوندرز تعرّض للصدمتين، اكتشف همنغواي مبكّراً وصار يقلّده، يريد أن يكتب مثله وأن يعيش مثله، رافقه طيف همنغواي لسنوات، ثم درسَ عند كارفر، هذا الأميركي الذي شيّدَ كاتدرائية من القصص القصيرة. وفي «جامعة سيراكوس»، تغيّرت حياة سوندرز وكتابته إلى الأبد. تعرّف بفتاة معه في برنامج الكتابة، وبعد قصة حب دامت ثلاثة أسابيع، تزوّجا، وهناك أيضاً قرّر أنّ هذا هو ما يريده، ويجب عليه أن يقرأ أكثر ويكتب أكثر... وهذا ما كان.
وُلِد سوندرز في تكساس، لكنّه عاش مع عائلته في ضاحية شيكاغو. درس الجيوفيزياء في الجامعة، وسافر بعدها إلى سومطرة ليعمل في شركة نفطية. وبعد أشهر من العمل، أصيب بمرضٍ بعدما سبح في نهرٍ تتبرّز فيه القردة. عاد إلى أميركا وهو شاب في الثالثة والعشرين، وقرّر أن يذهب «على الطريق» مع فتاة يعرفها من بلدته. سافرا متطفّلين على السائقين في مدن أميركية عدة. جرّبا حظهما في لوس أنجلوس وكانت التجربة صعبة، عاد إلى بلدته عندما خسر والده التجارة التي كان يديرها، فوجد نفسه مضطراً للعمل في البناء وتركيب السقوف، حتى صادف ذلك الإعلان عن دورة الكتابة الإبداعية ذات سهرة.
بعد انتهاء فترة «جامعة سيراكوس»، استقرّ سوندرز مع زوجته بولا في نيويورك نهاية الثمانينيات. وعندما قرّر أن يصير أكثر التزاماً بالكتابة، وجد نفسه مضطراً أن يعُيل زوجته وابنته حديثة الولادة. شهادته الجامعية كانت قد انتهت صلاحيتها، «لم أكُن أعرف أن الشهادات تموت!»، فاضطر لقبول وظيفة كاتب تقني في شركة صيدلة. «لم يكُن أحدٌ يعرف أني أكتب قصصاً، كُنت أجلس كل يوم لأكتب كتالوغات ونشرات أدوية، وعلى نفس الكومبيوتر ولمدة ثماني سنوات، كتبتُ مجموعتي القصصية الأولى «أرض- حرب- أهلية في تدهور سيّئ»».
صدرت هذه المجموعة سنة 1996، عندما بلغ سوندرز 37 سنة في نفس العام الذي صدرت فيه أضخم وأشهر رواية لديفيد فوستر والاس «دعابة لانهائية» (1500 ص). وعندما كان المجتمع الأدبي الأميركي متحمّساً لرواية فوستر والاس، كان الأخير الذي سينتحر بعد 12 سنة من ذلك التاريخ، يردّد في غرفة تحرير مجلة «هاربرز» المرموقة: «جورج سوندرز أكثر كاتب مثير في أميركا اليوم».
ينتمي سوندرز لجيل والاس، خاصة جوناثان فرانزين ومارك لَينر، وإن كانوا قد نشروا كتبهم الأولى قبله بسنوات، فضلاً عن كونهما ينحدران من عائلاتٍ مرتاحة مادياً ومتعلّمة... عكسه هو الذي عاش أغلب حياته في كنف الطبقة العاملة. يقول سوندرز: «لقد كانوا منخرطين في مشروع ما بعد الحداثة، السؤال كان بالنسبة إليهم: كيف نتخطّى الآباء الحداثيين، الذين شكّلوا حساسية الأدب الأميركي الحالي؟ أما بالنسبة إليّ، فكان: كيف أقلّد الانفعال والعاطفة داخل لغتي وحياتي كفرد من الطبقة العاملة؟». بعد كتابه الأول، صار سوندرز أستاذاً للكتابة الابداعية في «جامعة سيراكوس» نفسها، وتخلّص قليلاً من أعباء الطبقة العاملة.
الانفعال والعاطفة في اللغة... وعند النّاس البسطاء، على هذا تأسّست جُملة سوندرز، والشيء نفسه نجده عند أهم كاتب فرنسي في القرن العشرين: فردينان سيلين، الذي طوّر اللغة الفرنسية بمقاربة مماثلة مردّداً جملته الأثيرة «في البدء كانت العاطفة... لا الفعل». يقول في إحدى محاضراته أنّه جاء من ضواحي شيكاغو حيث النّاس كرماء وأذكياء، لكنّهم لا يعرفون الرقّة في التعامل، «قد يقول لك أحدهم مُعبّراً عن حبّه وهو يصرخ كأنّه سيضربك: إنّي أحبك يا ابن الزانية. العاطفة تغطي الكلام». وهذا ما حاول أن ينقله في نثره طيلة ثلاثين عاماً من الكتابة.
شخصيات سوندرز غريبة تعيش في مستقبل قريب، سحقته الرأسمالية ومجتمع الاستهلاك. في القصة التي حملت عنوان مجموعته الأولى، يسردُ قصة مدينة ملاهي ضخمة يدخلها الناس ليعيشوا أجواء الحرب الأهلية الأميركية. ألعاب خطرة تُحاكي ما حدث في القرن التاسع عشر. أما في مجموعته الثالثة «في أمّة الإقناع» (2006)، فنقرأ عن دب قطبي يبدأ كل أيامه بهدف واحد: سرقة رقائق بطاطا من بيت عائلة إسكيمو، وعن بلدة اجتاحتها حمى قتل الحيوانات الأليفة، وعن أرملتين من أوروبا الشرقية تحاولان العيش في ضواحي المدن الأميركية... تمتزج السخرية بالدعابة بهجاء المجتمع الحديث، باللغة المشحونة في قصص سوندرز. قصص تنطلق بعوالم واقعية أميركية، ربما بتأثيرٍ من كتاب القصة الأميركيين الكبار الذين عاصرهم أمثال ريموند كارفر وتوبياس وولف ودنيس جونسون. لكنها ـ أي الشخصيات- تتصرّف بطريقة غرائبية، وهنا يعود سوندرز إلى تأثيراته الأولى التي تمتدّ من العبثيين الروس في بداية القرن العشرين أمثال دانيل هارمس، وحتى كتّاب الديستوبيا الأميركيين كورت فونيغت وتوماس بينشون.
أما روايته الأولى «لِنكُن في الباردو» التي صدرت هذه السنة بعد مجموعته القصصية الأخيرة «العاشر من ديسمبر» (2013 ـ كانت أنجح مجموعة له عند القراء والنقّاد)، فقد جاءت حول قصة سمعها سوندرز منذ عشرين عاماً عن أبراهام لِنكُن الرئيس الأميركي الأشهر الذي خاض حرب الاستنزاف بين الشمال والجنوب وأنهى العبودية. سار ذات ليلة من سنة 1862، أي خلال فترة الحرب الأهلية، إلى المقبرة التي دفن فيها ولده ويلي الذي مات في سن الحادية عشر بحمى التفوييد. وهناك يَعلَقُ لِنكُن بين أشباح الموتى في المقبرة، العالقة بدورها في «الباردو». كلمة بوذية من التيبيت تعني المرحلة بين الحياة والموت، أو مرحلة العبور الأكبر للأرواح من عالم الأحياء إلى عالم الأموات، وتصير المقبرة مسرحاً لمونولوغات عشرات الأشباح.
جورج سوندرز كاتب قصة مهم، وإن كنا قد التفتنا إليه بسبب روايته الأولى التي حصدت هذه الجائزة، إلا أنّه لا يجب أن نغفل عن مشروعه الأكبر والأهم: عشرات القصص القصيرة والنصوص النثرية التي تكشف لنا وجهاً مهماً من الأدب الأميركي الحديث، وتقول لنا الكتابة كلعبٍ مع اللّغة والوقت، كهجاءٍ ساخر لواقع الأشياء وكدعابة لانهائية.