منذ كتابه الشعري الأول «نشيد الأيام الستة» (1984) حمل الشاعر الصغير أولاد أحمد سؤاله القلق، وهواجسه المرعبة والمرعوبة، أطلق عبرها صوته النافر، ورفضه العلني للظلم والاستبداد، ولضرورة أن يكون الشاعر صانع المواقيت والأسفار، حدّ أن كتاباته الشعرية التالية (ليس لي مشكلة/ 1998، حالات الطريق/ 2013) منحته مزاج الشاعر الثائر، الشاعر الرائي، الشاعر البعيد عن التطويع والتعويم.
ينتمي أولاد أحمد الشاعر الى فضاء القصيدة الجديدة، اللجوجة بالتحوّل والوجع والتمرد، شغفها بالحرية تحوّل الى شغف وجودي، مثلما هو شغف بالرؤيا الجديدة التي كانت رهاناً تعبيرياً وفكرياً لمفهوم الحداثة، والتغاير الذي حاولت أن تشرعن وجوده القصيدة العربية الجديدة في العراق ولبنان ومصر وتونس والمغرب وسوريا. لكن نزوع الشاعر أولاد أحمد الى مقاربات «الثورة» في وقت مبكر، بوصفها استشرافاً لأفق التغيير الوطني، وضعته خارج لعبة الجماعات الشعرية، وهي تتقصى تحولات القصيدة ومشغلها الشعري، إذ حمل «صليب» الشاعر الاحتجاجي، الشاعر العضوي، وتصدّى جهاراً لكل مهيمنات السلطة والاستبداد..
كان الرائي الذي أبصر «سرّاق الثورة» وهم يمارسون لعبتهم في اختطاف روحها، وتعويم شعاراتها عن الكرامة والحرية

هذا المُعطى الوجودي المؤنسن انعكس على هوية القصيدة التي يكتبها اولاد أحمد، فهي لم تخضع لهواجس ظلت تثيرها الروح النثرية في القصيدة الجديدة وسط احتدامها المشرقي، ولا بغواية الكتابة المغايرة التي انشغل بها مجايلوه، بل وجدت نفسه وقصيدته وسط مجرى تأصيل وظيفة الشاعر الحامل لمرقابه، حيث تتسع اللغة للبوح والغناء والسخرية والمفارقة، حدّ أن قضايا الحرية والثورة والناس تحولت الى أغانٍ، وباتت دافعه الأثير الذي يحرّضه على أن تكون القصيدة رسالة، ورؤيا، وهو لا يعنيها بالكتابة المباشرة، لكن بالكتابة التي تحوز على التوهج، وعلى الاستعارات التي ينبض بها الشارع التونسي، ومن أسئلته اليومية والوجودية.
حين كتب أولاد كتابه السيري ليوميات الثورة (القيادة الشعرية للثورة التونسية) عام 2013، فإنه كان يعيش كل ما تحمله الثورة من هواجس. لذا وجد مسؤوليته كمثقف مسكون بالحلم الثوري أن يدوّن يومياتها، وأن يكون الرائي في سوحها وهو يُبصر «سرّاق الثورة» وهم يمارسون لعبتهم في اختطاف روحها، وتعويم شعاراتها عن الكرامة والحرية الى شعارات غارقة في الأصوليات، والقهر الفكري، وتغييب ذاكرة حلم الشعب التونسي الذي تجوهر في قصيدة ابي القاسم الشابّي (إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر) منحازاً الى قضيته والى خلاصه من كل الطغاة والمستبدين..
فهل يكفي الشاعر أن يكون شاهداً على تعويم الثورة ليموت بسرعة؟
وهل ستبرر القصيدة موت شاعرها وهي الواقفة مثل شوكة مقدسة، تحمي ذاكرة المغني، وذاكرة الثوري؟
وهل سيكون هذا الغياب خلاصاً للشاعر العالق بوعيه الشقي، والمباح منذ سنين للكثير من القناصين والمفسرين وأصحاب الفتاوى والعسس والأصدقاء ذوي المعطاف والتقارير...
كل تلك الأسئلة جعلت أولاد أحمد أكثر وطأة تحت لعبة الحياة المُستَفزَة، وربما هي التي قد دفعته للمجاهرة البائنة والصادحة بالاحتجاج والرفض..
قبل شهرين أو ثلاثة، قلت إن الشاعر أولاد أحمد سيموت من فرط الوجع، أو من فرط ما يتسع في الرؤيا، فهو شفيف وصلب في آن معا، شاعر تساكنه اللغة بوصفه موقداً، وتبادله الاستعارات الكثير من حيلها بوصفه عارفاً بالسرائر والمُضمرات، ومكشوفاً عنه حجاب المعاني..
الموت احتجاجاً ظل يراوده، وربما الموت اغتيالاً، إذ كان يجد في هذا الموت الشعري لذة، فهو موته الفائق والمتعالي، حيث كان يكره الموت خوفاً، والموت ظلماً، والموت المجاني الانتحاري تحت يافطات أصحاب الفتاوى وهي تُخضع الشاعر الى أحكام الزندقة والمروق والتجديف..
أولاد أحمد عاش رؤية كل تلك الميتات، فأخذه الوجع الى القصيدة ليشابكها مثل شجن، أو شغف، فهي أنثاه وسريره ورائحة قميصه وبيانه السياسي..
في ظل موتنا العربي المُباح للتأويل، لا نجد سوى أن نحزن بغمٍ كبير على موت الشاعر، لأنه الوحيد الذي يمكنه أن يُجيد التورية إزاء مركزيات الموت النصوصي، والموت القومي والموت الطائفي، والموت الحزبي...
موت الشاعر يعني موت الحكاية، وموت الخفّة وموت المُغني، وربما هي استنفار لفروض قهرية قد يصنعها أصحاب التكايا العاطلون عن القصيدة والعاطلون عن الثورة...
الشاعر الذي تلبسه أولاد تحوّل الى قائد شعري، والى صوت وطني يفكر بعمق، وبصوت عالٍ، من الصعب أن تطمئن السلطة له، فهو اصطنع لنفسه ولقصيدته سلطة مضادة، أو ربما وعياً مضاداً للمكرر والمألوف والتاريخي الغارق في الحياء والخوف والهروب الى لباس اللغة...