بعد «صلاة تطيل اللوز شبراً» (2012)، و«ركلة في قرية النمل» (2013)، و«ذاكرة القرصان» (2014)، صدر الديوان الرابع للشاعر اللبناني عن "دار النهضة العربية". في «سوء تفاهمٍ طويل»، يعطي صراع «الأنا/ الشاعر» مع «الآخر/ الهو» بعداً آخر للمجموعة. عبدالرحمن جاسم
أن تعرف محمد ناصرالدين، فذلك يعني أن تعرف بأن الشعر هو جزءٌ لا يتجزأ من كينونته. لذلك فإن مجرد فكرة الكتابة عن ديوانه الجديد (هو الديوان الرابع بعد «صلاة تطيل اللوز شبراً» (2012)، «ركلة في قرية النمل» (2013)، و«ذاكرة القرصان» (2014))، فذلك يعني أنك أمام مهمةٍ شاقةٍ. يأتي ديوانه «سوء تفاهمٍ طويل» (دار النهضة العربية) كمحاولةٍ مطلقة لقول «الشعر» بعد مخاض ثلاثة دواوين سابقة، فهل يختلف هذا السوء تفاهم عما «اقترفه» محمد سابقاً؟
صور كثيرة ولغة شعرية غير مباشرة

يحاول الغلاف أن يلجنا داخل الديوان: رأس تمسكه يدان، وفمٌ مفتوحٌ على اتساعه محاولاً إخراج ما في داخله، هي بدايةٌ مباشرةٌ لما تحويه الأوراق القادمة. في البداية، هناك أربع صور «شمسية» كل واحدةٍ لعالم مختلف يراه من زاويةٍ يريدها أن تكون خارج «المتناول» المعتاد للشعر العربي النثري في رؤياه المعاصرة. تبدو المدرسة التي يكتب منها محمد ناصرالدين مختلفةً عن مجايليه من الشعراء: «رأسي صغير/ معروض للبيع في مجموعة/ من تحف جياكوميتي/ لا حاجة لتنظيفه مثل المسدس في المساء/ أو بحشوه بالرجاء الصالح عند الصداع/ رأسي لا يخيف العصافير في الحقول». الصور هنا كثيرة متشعّبة، تقترب من رؤيا محمود درويش في قصائده ما بعد مرحلة ثمانينات القرن الماضي: صورٌ كثيرة، لغةٌ شعريةٌ غير مباشرة، وفوق كل هذا معانٍ تبحث عن مترادفات. في «أحوال الشجر»، يغيّر الشاعر ثوبه: «حين يكون الشاعر شجرة/ عليه إذن/ في الفصول الأربعة/ أن يصمت/ أن يسمع لكلام البشر/ دون أن يجيب البتة/ أن يكون كله في ورقة/ وأن يراها تطير». هنا تبدو «حرفة» الشعر وصنعته التي قلنا إنَّ محمد يتقنها. هناك أسئلةٌ واجابات كثيرة في جملٍ قليلةٍ للغاية. هناك متطلبات، وهناك أسرار، كلها في مجموعة أبياتٍ لا تتجاوز أصابع اليدين، فوق كل هذا لغةٌ جذلةٌ سريعة تجذب وتشد حتى القارئ البعيد عن الشعر؛ ماذا إذاً عن بقية القصيدة: «سأكون فظاً إذاً أيتها الشجرة/ العصفور سيقتله الصياد/ وأنت سيذبحك الحطاب».
يعطي صراع «الأنا/ الشاعر» مع «الآخر/الهو» في المجموعة للجو بعداً آخر. يذكرنا بـ «مراثي دوينو العشر» للشاعر الألماني راينر ماريا ريلكه، إذ يكتب ناصر الدين: «أبي مات/ قبل أن أقرأ تولستوي بوقتٍ طويل، لم أقدر أن أفك شبهة الصَدَف والطائرة»، حاكياً الأنا كثيراً، فماذا عن «الآخر/ الهو» الذي قد يكون جماداً (الشجرة قديسة/ طالما هناك صحراء)، أو حيواناً (الدب البني/ حين يحك ظهره/ الممتلئ بالقمل/ بجذع الشجرة/ ينحت الوجود الثقيل/ تماماً كما يفعل الشعراء)، أو إنساناً (انتقى مكاناً في الشمس/ بسط أصابعه الثلاث/أبصر الظل/ تاجاً على الجدار/ ../صار ملكاً/ بثلاث خطواتٍ بسيطة)؟... كل ما يشترك بينها جميعاً هو كونها تحمل «حكمة» الشاعر ورؤيته التي تبلغ من الحزن مبلغاً عميقاً، من دون أن تغلق على الأمل تماماً، فتترك له منفذاً ولو قليلاً: «يد الشاعر مبتورةٌ/ إلا من إصبعين/ يقلب عليهما/ احتمالات/ الحياة والموت/ قرب النافذة». هناك أسئلةٌ كثيرةٌ في الديوان، أسئلةٌ ربما أكثر مما قد يحتاجه قارئ المرة الواحدة. مع ذلك، هناك إجاباتٌ كثيرةٌ على أسئلة لم يطرحها الشاعر نفسه حتى: «المريض الدائم/ المحتاج إلى دم/ ليس سوى اللغة». هو منطقُ صراعٍ لا نهاية له في ديوانٍ شديد الخصوصية يرسمه محمد ناصرالدين، ليدع قراءه عند ختام الديوان أمام سؤالين اثنين: هل كان يكتب لنفسه أم للقراء؟ أما الثاني، فهو ماذا سيحمل الديوان القادم؟