اليوم هو الثلاثاء الأول بعد إتمامي عامي الثلاثين. بدأت يومي بالذهاب لتجديد اشتراك التأمين الصحي. وقفت في طابور طويل وبالقرب مني رجل عجوز، سبعينيّ ربما، كان واقفاً خلف طابور النساء حتى نبهه الضابط المسؤول عن تنظيم الصفوف بإشارة من يده، فقال له العجوز متمتماً دون أن يسمعه الضابط «يا أخي ما تسبني، أنا مبسوط هنا بين الستات». نظر لي وتبادلنا الابتسامات، ثم انضم إلى طابورنا وقال لي «مش كتير 400 جنيه فى المشروع ده؟».
أجبت بتلقائية أنه قد ينفق أضعافهم في الفحوص سنوياً. أدركت ثقل جملتي على عجوز في مثل سنه، فصمتُ إلا أنه هز رأسه موافقاً. نودي على اسمينا ودفع كل منا نصيبه. ذهبت بعدها إلى مستشفى الأطفال حيث أعمل منذ مطلع العام، مررت بين الأطفال وذويهم دون أن أنظر إلى وجوههم، تلك هي عادتي. أنظر إلى وجوه المارة في الشوارع، راكبي المترو والميكروباص، وإلى المنتظرين أمام أبواب السينما والجالسين فى المقاهي، أتفحص وجوههم متأملاً حتى يظنوني شرطياً أو متطفلاً، إلا أنني عند دخولي إلى المستشفى لا أنظر إلى الوجوه قط، لا وجوه المرضى ولا مرافقيهم، أتوجه إلى غرفة الأطباء مباشرة في خطوط هندسية سريعة... مر الوقت بطيئاً، مللت، تركت حجرتي ورحلت. في ساحة المستشفى، يقف أراجوز مقدماً عرضاً للأطفال الذين يلتفون حوله في دوائر متداخلة، ومن خلفهم دوائر أخرى يتجمع فيها أهاليهم وقوفاً، وعلى الأطراف بعض الضباط المتناثرين. أبطأت في خطاي لأسترق السمع لبعض مما يرويه الأراجوز، ولكنني لم أضحك، نكاته غير قادرة على بسط ابتسامة على وجهي الثلاثيني العابس، إلا أن الأطفال يبتسمون، بعضهم يضحك، وأغلبهم يحمل تلفونات محمولة مصوبين كاميراتها باتجاهه.. خارج باب المستشفى، كدت أصطدم بمراهق بدأ شاربه في خط وجهه، يقف ممسكاً بأعمدة السور الشبيه بقضبان السجون متابعاً العرض بسعادة تفوق سعادة أولئك الأطفال.
مشيت حتى محطة المترو المتكدسة بالمواطنين والباعة الجائلين والشحاذين والضباط. كان صوت المذيعة الداخلية يصدح عبر السماعات المنتشرة في كل مكان، بدأ عمل تلك الإذاعة منذ بضعة أشهر عندما شرعت إدارة المترو في بث الأغاني الوطنية عبر سماعاتها بشكل بدا مفاجئاً، حتى سرت روح حماسية بين المواطنين دون هدف واضح معين. فكان لا بد للمسؤولين من اختلاق عدو يفرغ فيه المواطنون شحنتهم تلك، مورطين إياهم في معارك وهمية، الأمر أشبه بممارسة العادة السرية أثناء مشاهدة أفلام البورنو، أو ربما حتى دون مشاهدة، بمجرد التخيل... لكن، منذ بداية العام الحالي، صارت الإذاعة تبث عدداً من التعليمات والإرشادات بدلاً من الأغاني. في أول الأمر، كانت أشبه بالتعليمات المكتوبة على الغلاف الخلفي للكتب المدرسية، إلا أنها باتت تزداد وتتكاثر يوماً تلو الآخر، حتى بت أشغل نفسي في الطريق الطويل للمترو بالتقاط الإرشادات المستحدثة في كل يوم جديد، احذروا أصحاب الشوارب الكثة. احذروا ممن يصبغون شعورهم بلون غير الأسود. ابتعدوا عن الباعة الجائلين. اضربوا الشحاذين على ظهورهم واطردوهم من العربات. لا تسهروا بعد الساعة العاشرة. لا تعاشروا زوجاتكم إلا في ليالي الخميس. لا تأكلوا اللحوم والأسماك. لا تتابعوا الدوريات الأوروبية. لا تقرأوا الشعر. لا تشجعوا الفرق الأجنبية. لا تشربوا الخمور المستوردة. شجعوا البيرة المحلية.
كان المرور من محطة المترو مغامرة حقيقية، مخاطرة متكررة يومياً، فأمام كل ماكينة تذاكر يقف ضابط شرطة، جميعهم على الهيئة نفسها، يرتدون نظارات شمسية رغم أننا تحت الأرض، يوقفون كل المارة، يمرّرون أيديهم بخشونة وصفاقة على جسدك، صدرك، بطنك، قدميك، فخذيك، باحثين عن أي شيء قد يثير ريبتهم، ثم يختمون التفتيش بحركة سريعة معتادة بدس أيديهم في شق مؤخرتك، ليتأكد من خلوها من أي ممنوعات. الأمر ذاته يحدث مع النساء، إلا أنهم أيضاً يقومون بحركة مماثلة فوق فروجهن، وتفادياً لأي لغط ديني، أصدر الأزهر فتوى بجواز هذا النوع من التفتيش واعتبار الضباط في مقام المحارم. قبل أن يصرفك الضابط، يرمقك بنظرة فاحصة، يتأكد من أنك حليق اللحية، مستور الجسد، نظيف الملبس، ينظر أيضاً إلى الأحذية، يتأكد من لمعتها، وقد يقترب منك أكثر ليتأكد أن رائحتك غير منفرة. إذا تراءت للضابط أي مخالفة للنظام العام، أي شيء قد يثير اشمئزاز أو نفور أحد المارة، فإنه يودعك في حجرة الحجز المجاورة، يتركك هناك حتى نهاية اليوم، وعند انتهاء دوامه يطلق سراح المخالفين ليحل آخرون محلهم. لقد احتُجزت ذات مرة في تلك الحجرة حيث لم يكن قميصي مدخلاً في البنطلون كما تأمرنا الإرشادات المتبعة. في أغلب الأحوال، لا يخرج جميع المحتجزين إلى بيوتهم، فالضابط عادة ما يستبقى اثنين أو ثلاثة من حصيلة ورديته باعثاً إياهم إلى القسم إذا تشكك في غضبهم من الإجراءات، ولذلك فعليك أن تكون حذراً، تجلس اليوم بأكمله دون أن تبدي أي علامة تذمر أو تأفف وأنت في حجرة الحجز الضيقة زجاجية الحوائط. يجب عليك أن تتسمر دون أن تتحدث أو تشير لأي من المارة الذين يتسنى لهم رؤيتك أثناء مسيرهم.
مررت من البوابة بعدما قام الضابط بالتفتيش المعتاد، وأفزعني – رغم توقعي – بحركة يده إلى دبري. نظر إلى ذقني، شعري، ملابسي وهندامي ثم أشار لي بالعبور.
أثناء ركوبي عربة المترو، فكرت فى الاتصال بصديقتي مي لتدبر لي لقاء مع الفتاة التي حدثتني عنها من قبل. كنت قد رفضت فكرة مقابلتها في المرة الأولى، فأنا لا أفضل المحجبات، كما أني لا أفضل الطبيبات، ربما أريد أن تدخل حياتي نسائم مختلفة عن المعتاد. ولكني ما لبثت أن تعديت عامي الثلاثين، كما اكتشفت صباح اليوم أن الشعر الأبيض الذي اعتاد الانتشار على جانبي رأسي قد توغل إلى ناصية وجهي، ولذا فعليّ أن أقدم بعضاً من التنازلات. لا بأس من مقابلة تلك الطبيبة المحجبة. انتبهت مرة أخرى لصوت المذيعة، لا تسرفوا ببذخ. لا تشاهدوا البرامج الساخرة. لا تسبوا ولا تشتموا. لا تقرأوا الروايات. لا تغضبوا. لا تتابعوا الأخبار إلا عبرنا. لا تشتهوا إلا أزواجكم. لا تمارسوا الجنس لأكثر من عشر دقائق. لا تناموا إلا على جنبكم الأيمن. لا تأكلوا الحواشس والشاورما. لا تشربوا البيبسي والمياه المعدنية. لا تشاهدوا الأفلام الأجنبية. لا تطيلوا النظر إلى القمر.
اندفع عشرات الركاب في عشوائية وارتباك، الكل يبحث له عن مكان حتى امتلأت عربة المترو عن آخرها، وتكدست مجموعة من النساء في تلاحم وتداخل مميت على طرفها الخلفي. اشتبكت إحداهن مع الباقيات، الكل محجبات أو منقبات، عدا تلك المرأة الأربعينية، هي الوحيدة التي ترتدي ملابس ملونة وسط مجموعة من المتشحات بالسواد في رمز يليق بفيلم لصلاح أبو سيف. ظلت المرأة تدفعهن وتنهرهن في غضب داعية إياهن إلى التقدم في طرقة العربة، إلا أنهن رفضن الاحتكاك بالرجال الواقفين في المقدمة، فقالت لهن في مشهد يليق بفيلم لوحيد حامد هذه المرة، «طول ما أنتم كده، هنفضل عالم تالت». يبحث العامة دائماً عن معانٍ عميقة لمشاكلهم اليومية البسيطة. سائقو التاكسي دائماً ما يستخدمون مثل تلك العبارات الرنانة، يلتقطونها من الراديو في أغلب الأحوال.
كانت مي سريعة الإقناع واستطاعت أن تدبر لي ميعاداً مع الفتاة إياها في الليلة ذاتها، كان اسمها سارة أو يارا، لا أذكر تحديداً، جلسنا وجهاً لوجه، تبدو خجولة وطيبة، وكما توقعت لحوارنا فقد تحدثنا عن الطب، المستشفيات، الماجستير، المرضى، وهو حوار لا أريد المزيد منه في حياتي، كنت أخطف النظرات إلى المباراة الدائرة على شاشة التلفزيون خلفها. لم تكن جذابة أو لافتة، فكرت أنها لذلك تجلس معي الآن.
كالعادة، مر بجوارنا الضابط المخصص للكافيه عدة مرات، تأكد أننا لا نتلامس، لا نتفوه بألفاظ خارجة، ولا نتبادل نظرات شبقية ساخنة، وبالتأكيد لا نتحدث بالسياسة، كما أنه نظر إلى بنطالي ليتأكد أن عضوي ليس مستثاراً. لقد سبق أن شاهدت أحد الضباط وهو يقبض بيده على عضو واحد من الزبائن جاراً إياه بين طاولات الكافيه حين لمح أثناء مروره ذلك النتوء في حجر بنطال الزبون، وذلك رغم ما يضيفونه لكل أطعمتنا المعبأة والمطبوخة من زيت الكافور وشتى أنواع المهدئات، وبسبب تلك المهدئات تجد مشجعي الفريقين يجلسون أمام التلفزيون متجاورين في سلام وهدوء، دون أن ينفعل أي منهم أو يسب اللاعبين أو الحكم متجنبين بذلك الوقوع تحت طائلة قانون الأخلاق الذي يعاقب بالغرامة لسب اللاعبين وبالحبس المشدد في حالة سب الحكم.
كانت المبارة الدائرة في نهائي كأس الزعيم الذي جلس في مقدمة الحضور لتوزيع الجوائز والميداليات، إلا أن الزعيم، قبيل انتصاف الشوط الثاني، حرك سبابته، فتحرك بعض الضباط للقبض على الحكم، اتهمه الزعيم بعدم الحيادية، ثم أمر بإنهاء المباراة عند هذا الحد، فأشار الحكم الرابع الذي حل محل الأول إلى اللاعبين بالاتجاه إلى ضربات الترجيح مباشرة.
اصطحبت سارة أو نهى، أياً كان، إلى محطة المترو. قبيل التقدم نحو الماكينة لاحظت اتساخ حذائي، فمددت يدي ومسحت الأتربة من فوق سطحه على بعد خطوات من نقطة التفتيش. مررنا من البوابات، فُتشنا، أشحت بوجهي بعيداً متجنباً النظر إليها بينما يمد الضابط يده إلى نهديها وبين فخذيها وفي مؤخرتها، ثم ودعتها بعين زائغة وافترقنا على وعد بلقاء آخر.
بعدما مررت من بوابة التفتيش، عاود صوت المذيعة الداخلية في التدفق من جديد، لا تحبوا ولا تكرهوا. لا تغاروا ولا تغضبوا. اغسلوا أيديكم قبل الأكل وبعده. لا تمارسوا العادة السرية. لا تبخسوا العاهرات حقوقهن. لا تقرأوا القصص القصيرة. لا تكذبوا على الضباط. لا تسهروا. لا تمشوا بتؤدة ولا تسرعوا الخطى. لا تشربوا عصير المانجو أو التفاح. لا تأكلوا البيتزا والهامبرجر. لا تسألوا. لا تغضبوا. لا تحبوا. لا تكرهوا.
* قاص وروائي مصري