كلنا نعرف معنى التنمّر الذي يمارسه البعض، الأقوى تجاه الأضعف. عايشناه في المدرسة تلاميذ وطلاباً. ضحايا تنمر طلاب، وطلاب ضحايا تنمر أساتذة، ونعلم أيضاً أن بعض الأساتذة عانوا تنمّر إدارات المدارس.
التنمر موجود في كل مكان وفي كل زوايا المجتمع مهما كان شكلها. في المدرسة وفي الجامعة، وفي الشارع، وفي مختلف النشاطات الاجتماعية. التنمر موجود حيث توجد سلطة.
التنمر هو من صفات الطرف الأقوى وممارسة تجاه الطرف الأضعف. الأمر ليس متعلقاً بممارسات شخصية فقط، وإنما ممارسات جامعة. وبما أن التنمر موجود حيث ثمة سلطة، فيمكن القول إن التنمر موجود في عالمنا منذ أقدم العصور. نعثر عليه في الإمبراطوريات القديمة مثل البابلية والآشورية والفارسية والرومانية والإغريقية، وغيرها.
لكن كتاب «أمة متنمرة: المؤسسة الأميركية تخلق مجتمعاً متنمراً» (منشورات «جامعة كنساس» 2016) يتحدث عن العصر الحالي، انطلاقاً من أرضية علمية تناقش التنمر لا كمادة مرتبطة بعلم النفس، وإنما من منظور اجتماعي.

فالتنمر، حالة اجتماعية تدّعي التفوق على الآخر، وتتطلب بالتالي خضوع الضحايا للمتنمر وقبول تفوقه وشرعيته. هذه مقاربة جديدة طرحها المؤلفان تشارلز دربر، ويل مغراس باسم «الخيال الاجتماعي» sociological imagination، الذي يربط المشاكل الخاصة بالقضايا العامة.
بالتالي، فإن التنمر مشكلة بنيوية مرتبطة بهرمية السلطة ومنظمة حولها، دوماً بحسب الكاتبين، وهما أستاذان متخصصان في مادة السوسيولوجيا ويدرّسانها في جامعات أميركية.
الكاتبان قالا إن التنمر موجود في كل مكان منذ أقدم العصور، وكثير من الدول/ الأمم تمارسه، لكنهما اختارا التركيز على تنمر الولايات المتحدة لأنها الدولة الأقوى في العالم، بل إنها الدولة القوية الوحيدة التي يمكنها ممارسة تنمرها أينما شاءت وكيفما شاءت، تقريباً.
وبما أن التنمر في منظور المؤلف مرتبط بالخاص والعام، فمن الضروري النظر فيه في المدرسة حيث يتعلم التلاميذ والطلاب احترام التسلسل أو الهرمية السلطوية، والخضوع لها. فالمدارس في الولايات المتحدة ليس هدفها خلق أجيال من النبلاء، بل أيد عاملة في خدمة رأس المال المتعسكر الذي يمارس التنمر في مختلف بقاع العالم.
الكتاب أتى بأمثلة كثيرة على تنمر واشنطن عالمياً منها: كوريا (منذ عام 1945)، إيران ضد حكومة محمد مصدق (1953)، غواتيمالا (1954)، فييتنام (1954-1976)، الكونغو (1961)، اليونان (1967)، أندونيسيا (1967)، التشيلي (الحادي عشر من أيلول عام 1973)، نيكاراغوا (1984)، يوغوسلافيا (1996، و1999)، العراق (1990-1991)، هندوراس (2010)، ليبيا (منذ عام 2011)، الصومال، اليمن، سوريا وأوكرانيا، إضافة إلى تدخلها في انتخابات أكثر من ثمانين دولة.

إعداد أيدٍ عاملة في خدمة رأس المال المتعسكر الذي يمارس التنمّر


المشكلة تكمن في أن التنمر يتم تعلمه في المدرسة، والنظام المدرسي [القائم في الولايات المتحدة]، هو من إنتاج الرأسمالية الصناعية العسكرية، وأقيم بهدف تربية الأجيال ليكونوا مدافعين عنها والحفاظ عليها وعلى قيمها الفردية والجماعية.
فالنظام المدرسي القائم يجعل من المدرّس متنمراً، وإن على نحو ملطف، لكن علينا تذكر أنه يعمل على إخضاع الطلاب وفرض قبولهم بالقيم التي يلقّنهم إياها، ولا يقبل أي اعتراض أو انحراف عن ذلك. وإدارة المدرسة لا تقبل ذلك، ولا النظام القائم يقبل به. على المتلقّين قبول القيم التي تلقَّن لهم والدفاع عنها.
من الأمثلة التي يستعين بها الكتاب دعماً لرأيه عن التنمير، الملطف، في المدرسة مرتبط بما يسمى «فرق تدريب القادة الاحتياط الصغار» junior reserve officer training corps, jrotc. ثمة ثلاثة آلاف من هذه الفرق، التي تقع ضمن سلسلة القيادة. ومع أن الاشتراك فيها طوعي، إلا أن بعض الطلاب يخضعون لتنمر إدارة المدرسة التي تحاول إجبارهم على الالتحاق بها. أعفي طالب من الانخراط في البرنامج بعدما قامت لجنة الدفاع عن الحريات المدنية (civil liberties union) برفع دعوى قضائية على المدرسة.
النظم الاتحادية تعرّف هذه البرامج بأنها تمكّن الكوادر من خدمة وطنهم على نحو أفضل بصفة قادة ومواطنين وعسكريين. الهدف ــ بحسب الكاتبين ــ خلق أجواء إيجابية تجاه الخدمة العسكرية. هنا يستدعي الكاتبان مثال جندي أميركي في فييتنام بعث رسالة إلى مدرسته قبل انطلاقه في غارة جوية على فييتنام الشمالية، قال فيها، ضمن أمور أخرى، إنه يشكر إدارة المدرسة على القيم التي تعلمها فيها، وطلب عدم الحداد عليه في حال سقوطه لأنه جسد ينفذ مهمته وليس أكثر من ذلك!
كما ينتقل المؤلفان من تنمر واشنطن إلى تنمر دول أخرى حيث يخص السعودية وفكرها الوهابي التكفيري، وكيان العدو الصهيوني بالذكر. الكتاب يأخذ القارئ في رحلة مختصرة عبر نصوص توراتية تتحدث عن حنين يهوذا لتأسيس إمبراطورية متنمرة تحظى برضى إله التوراة يهوه، تماماً كما فعلت البكريستان البائدة. فمعنى قول «العهد القديم» أن يهوه جعل من بني إسرائيل شعبه المختار أنه منحهم حق التنمر على شعوب المنطقة، فبارك قيامهم بقتل العماليق، رجالاً ونساءً وأطفالاً ورضّعاً، ومواشيهم وأحلّ لهم رجم الزانية وقتل المثليين وكل امرأة لم تكن عذراء عند زواجها. إله التوراة ــ يقول الكاتبان ـــ مثل المدرسة، لا يقبل أي تسامح في موضوع الخضوع غير المشروط لقيمه أو حتى مناقشتها.