توزيعُ الحصص
كان الجنودُ مُتعبينَ، يجلسونَ على الحجارة.
كانت المرأةُ تحدِّقُ من النافذة، الظلامُ يشتدُّ
كنا نحلمُ – قالت – بالنصرِ، أو على الأقلِّ بالهزيمة
بهزيمةٍ كاملةٍ ليسَ حتَّى ذلك. لا شيء. هو
الذي اعتادَ أنْ يحشو عروقَهُ بزُجاجٍ مكسور
هناكَ عندَ المنضدةِ، يداهُ ملفوفَتانِ بالضمادِ، ها هو ذا،
يوزِّعُ حِصصَ الخبزِ ويتدبَّرُ أمرَهُ بحيثُ تكونُ حصَّتُه
هي الأصغر. فيما بعد سيلفُّ السكينَ فيها حدّ الضمادين
بحرصٍ فائقٍ ومقدَّس، بانتظارِ أنْ نسألَهُ كما يبدو
بالضبطِ عن هذا، دونَ أنْ يعرفَ كيفَ يُجيب.

شبه مربّع

لا جِدَال لَديه، لكنَّهُ دَائماً يسيرُ عَلَى نَفْس الوَضْعِ،
رَسَمَ مربَّعاً على الأرضِ بالطَّباشير؛ خَـطَا فيه، -
ذلكَ هو البابُ – رسم؛ - النافذة هنا؛ المرأةُ في الركن؛
نافذة أخرى؛ النورُ يدخل؛ُ كريستالُ الثريا يُشعشعُ
كنَّا نُراقبُ؛ - لم تكنْ هُناكَ امرأةٌ (وكنَّا نعرفُ: ستكون عاريةً)
ولا ثّريا. تَرَكَ الطباشيرَ على المنضدة،
نَظَرَ إلى الأرضِ ودَفَنَ يديهِ في جيوبِهِ، مُنْزَعِجاً بوضوح
منْ أنَّه لم يُقْنعنا، وفوقَ كلِّ شيءٍ مُنزعجاً
من ذلك الغبارِ الطبشوريِّ الجاف.
أَدْرَكْنا أنه يمسحُ أصابعَهُ سِرَّاً في جيبِهِ
رَغمَ أنه يتظاهرُ بأنَّ لَهُ جُمودَ التَّماثيل.

سيرك

سيركُ الليلِ، الأنوارُ، الموسيقى؛
السّياراتُ المتألقةُ على طولِ الشارع.
عندما تنطفئُ الأنوارُ في المحلَّة،
عندما تسقطُ آخرُ نغمةٍ، مثلَ ورقةٍ يابسة،
تبدو واجهةُ السيركِ كأنَّها
طَقْمٌ ضخمٌ من الأسنانِ الصناعيَّةِ. آنذاك
تنامُ الآلاتُ النحاسيةُ في حقائبِها،
تسمعُ الحيواناتُ وهي تهدرُ عبرَ المدينة،
يُركِّزُ النمرُ في قَفَصهِ عَلَى ظلّة،
يخلعُ مُروِّضُ الحيوانات بدلتَهُ ويأخذُ سِيجارةً.
وبينَ حينٍ وآخر تستنيرُ المحلَّة
عندما تتوهَّجُ عُيونُ الأسودِ خلفَ القُضْبان.

فجأة

ليلٌ ساكنٌ، ساكنٌ. وأنتَ
كَفَفْتَ عن الانتظار. كانَ سلاماً تقريباً
وفجأةً على وجهِكَ؛ بأيِّ وضوحِ لَمْسة
الغائب، أنه سيأتي. ثم
صوتُ مصاريعِ النوافذِ تلتطمُ لذاتها
الريحُ ارتفعَتْ عاليةً وعلى بعدٍ قليل،
غارقاً في هديرِهِ، كانَ البحر.

أَرَق

هذا التكرارُ بلا هوادةٍ لنفسِ النصِّ - الغامضِ-
في أعلى الصفحةِ الثّقبُ الصدئ الَّذي تخلّفَ من دبّوس
في الأسفلِ قطرتانِ من الدمِ الأسود. الإثنان – قال –
الإثنان، المزدوجُ، الصوتُ المزدوجُ، المعنى المزدوجُ. لقد
تعبتُ من الأبواب
مغلقةً ومفتوحةً خلفها الأمواتُ أو النساءُ بدأ ليفتريس
بِالذهابِ مُسرعاً قبلَ هطولِ المطرِ.
وعادَ فِيما بعدُ بالبطانيَّةِ الرطبةِ وقبعةِ الذي أعدموه.

صباح

فَتَحَتْ مَصاريعَ النافذة. علَّقَت الشراشفَ مِنْ إفريزها. رَأَت النَّهار.
نَظَرَ إليها عُصفورٌ باستقامةٍ في عينيها «أنا وحيدة»، همست.
«أنا حيّة». دخلت الغرفة. المرأةُ أيضاً نافذة
إذا قفزت منها، سأسقطُ بينَ ذراعيّ.

غير مستولى عليه

جاءوا، كانوا ينتظرونَهُ إلى الخرائبِ، إلى قطعِ الأرضِ المجاورةِ،
بدا أنَّهم يقيسونَ شيئاً بعيونهم، تذوَّقُوا
الهواءَ والنُّورَ عَلَى أَلسنَتِهمْ. وَجَدوهُ رَائِعاً
أكيدٌ إنهمْ يريدونَ أنْ يَأخذوا مِنَّا شيئاً زررنا قُمصانَنا،
رغمَ أنَّ الجوَّ حارُ،
وتطلَّعنا إلى أحذيتنا. ثمَّ أشارَ واحدُ مِنَّا
بإصبعِهِ إلى شيءٍ بعيد. استدارَ الآخرون
وإذا كانوا مُشِيحينَ عَنْهُ هكذا، انحنى خِفيةً
حَفَنَ قبضةً من التراب، خبّأها في جِيبهِ
وَابتَعدَ بِلا مُبَالاةٍ. عِندما استدارَ الغُرباءُ ثانيةً
رَأوا أمامَ أقدامِهم حُفرةً عميقةً،
تحرَّكوا، نَظَروا إلى ساعاتِهم وَغَادَروا.
في الحُفْرَة: سَيفٌ، أصيصٌ، عَظْمَةٌ بيضاء.

حجارة

تأتي الأيام تمضي، دون صعوبات، لا مفاجآت.
الحجارةُ تُنقعُ في الضياء والذاكرة.
أحدُهم يستعملُ الحجرَ مثلَ مخدَّةٍ،
آخرُ يضعُ حَجَراً على ملابِسهِ قبلَ السَّباحَة
لِيَمنَعَها من الانجرافِ معَ الرِّيح. آخرُ
يَستعمِلُ الحَجَر مِثْلَ مَقعدٍ
أو ليؤشِّرَ شيئاً في حَقلِه، في الْمَقبرة،
في الجِدَارِ، في الغابة.

فِيمَا بعدُ، بَعدَ الغُروبِ، عِندما تعودُ إلى البيت،
أيَّةُ حَصاة منَ السَّاحِلِ تَضعُها عَلى مَائِدَتكَ
هِي تمثالٌ صَغير – ناكي صغيرة أو كلب أرتميس،
وهذا، الذي وقف عليه شابٌ بقدمينِ بَلِيلَتَينِ في الظَّهِيرة،
هُو «بَاتروكليس» بِرموشٍ مُسدَلةٍ، مليئةٍ بالظل.

نشرة أخبار

غُيومٌ مسائيَّةٌ، ساعةُ الكاتدرائيَّةِ مُضاءةٌ
أشجارٌ شعثاءُ، بردٌ، قمامةٌ. ما زالَ بالإمكانِ أنْ نَسمَعَ
صوتَ الطَّلقاتِ في التِّلالِ. بَعدَ قَليلٍ
وَصَلَ جورج على درَّاجة. أَلْقَى قِيْثارةً
مَكسورةَ الأوتارِ. «لَقَدْ حَملَنَا الْمَوتى» قَالَ
«إِلى الأهراء؟؟ لا أناشيد أو رايات.
خُذوا هذه القائمةَ على الأقلّ، لنتذكَّرْ غداً
أسماءَهم، أعمارَهُم، أخذت حتَّى قِياساتِ أقدامِهمْ.
قَاطعو الرَّخامِ الثلاثةُ قُتِلوا أيضاً. كلَّ مَا بَقيَ
هُو ذلكَ الْمَلاكُ الرخاميُّ الَّذي لا رأسَ له.
عليكُمْ أنْ تَضَعوا عليهِ الرَّأس الذي تُريدون»
هَذَا هُو ما قالَهُ، ثمَّ ذَهَبَ. لَمْ يأخُذ القِيْثارة.

ظهيرة

تعّريا، قَفَزا في البحر. الساعةُ الثالثةُ ظهراً؛
الماءُ الباردُ لم يمنعْهُما من التلامُس. كانَ الشاطئُ يتألَّقُ
عَلى مَدَى البَصَر،
مَيْتَاً، مُقْفِراً، مَهجوراً. البيوتُ النائيةُ مُغلقة.
العالم اللامع تبخَّرَ، عَربةٌ يجرُّها حِصانٌ
كانتْ تختفي عَن النَّظر في نهايةِ الشَّارع.
عَلَى سَقفِ دَائرةِ البَريد
تَدلّى علَمٌ الى نِصفِ السَّارية. مَنِ الَّذِي مات؟

ظلالُ حَرَكَة

«سأغادرُ» – قَالَتْ – «سأرحلُ
بَعيداً. لَنْ أطيقَ الاستمرارَ؛ هذهِ الريح...»
رمى أوراقَ اللعبِ من يَديهِ. سُمعتْ خطواتٌ على الدرج.
انفتحَ البابُ. سقطتْ على الارضية شقفةُ نُور.
التقطت المرأةُ أوراقَ اللعبِ من الأرضِ وناولَتْها لهُ ثانيةً
بإشارةِ مَنْ يُقفِلَ راجعاً بعدَ سنين.
ثُمَّ ذهبتْ لتغّير ماءَ الأزهار.
لكنَّ مَا قالَتْهُ بقي يئزُّ في الغرفة
كذبابةٍ غارقةٍ في آزيزها في بدايةِ الشتاء.

* مختارات من شعر ريتسوس بترجمة سركون، لم تنشر من قبل، على أن تصدر قريباً عن «منشورات الجمل»