وفقاً لمفهوم «الهويات المجندرة»، فإن واقع المرأة في الحرب يستدعي دفع فاتورة مزدوجة. هويتها كأنثى أولاً، وإظهارها كفاءة عملية في الميدان ثانياً. بين هذين القطبين، تتأرجح أسئلة عالقة في تفسير معنى «الجندر»، رغم عشرات الدراسات النسوية في هذا المجال. لكن كتاب «المرأة والحرب» (تحرير كارول كوهن) الذي صدر بالإنكليزية عام 2012 قبل أن ينتقل أخيراً إلى المكتبة العربية (دار الرحبة ـــ دمشق ـــ ترجمة ريم خدّام الجامع)، يتجاوز هذا المفهوم بمعناه الضيّق نحو وقائع تتعلق بآثام الحروب وآثارها التدميرية على المرأة، بقراءات بانورامية لخرائط البلدان التي شهدت حروباً أهلية ونزاعات ونزوحات قسرية، أدت إلى تفكّك وتمزّق الروابط العائلية، وتالياً إعادة إنتاج إيديولوجيا جندرية حتى داخل مخيمات اللجوء.
12 باحثة نسويّة تناوبن على رصد الرضوض العميقة التي تواجهها المرأة في الحرب، جسداً وروحاً. وإذا بحكايات الاغتصاب أو العنف الجنسي تتفوق على ما عداها، فالحرب لا تكتمل فصولها إلا بحوادث الاغتصاب وانتهاك أجساد نساء المحاربين لدمغ تاريخ الخصوم بالعار. لن تنتهي المشكلة هنا، فالضحية ستتحول إلى أنثى منبوذة بسبب فعل ذكوري صرف، وغالباً ما تُرجم بالحجارة حتى الموت.
التقسيم الجندري إذاً، يهيمن على كل المهن حتى في الحرب، فهوية الجندي ذكورية، ما يضع المرأة في زاوية حرجة في حال حاولت أن تؤدي «دور الجندي»، ودورها الجندري في آنٍ واحد «لأنّ أيّ شكل من أشكال الأنوثة تبديه المرأة يهدّد بوصمها على أنها ليست جندياً حقيقياً، وفي حال أخفقت في إظهار أنوثتها، فإنها تعتبر ليست امرأة حقيقية». تتوقف باميلا ديلاجي عند قضية العنف الجنسي وصحة المرأة في الحرب والتحديات التي تواجه النساء في الإنجاب، فيما تعتني وينونا جيلز في تعقّب أحوال «نساء أجبرن على الهرب: اللاجئات والنازحات داخلياً»، معتبرة أن النزوح جزء من تكتيكات الحرب، لتجد المرأة نفسها نازحة داخل وطنها، أو مجبرة على عبور حدود بلادها كلاجئة، وفي الحالتين «تُدمغ بهوية جديدة بوصفها: نازحة».
الإجبار على الهجرة لا يخلو من عملية سخرة وخدمات جنسية تطال الرجال والنساء والأطفال، وإذا بمعظم اللاجئات يتحولن إلى «عرائس حسب الطلب بالبريد» كجزء من عملية الإتجار بالبشر. تستعرض الباحثة المختصة بقضايا اللاجئين، حوادث عينية من تشاد ودارفور وسريلانكا كحصيلة لحروب إثنية في المقام الأول، الأمر الذي أدى إلى أنواع من النزوح القسري، وإعادة التوطين، والعودة إلى الوطن، أو اللجوء طويل الأمد، وهنا «تصبح العملة الوحيدة التي تملكها الفتيات في أوضاع اللجوء الطويلة والميئوس منها هي أجسادهن».

أدت النسويات دوراً أساسياً في كشف العلاقة بين الجيوش الحكومية والبغاء


وتخلص إلى أن جحيم الحرب يعني «جندرياً» الموت والفقدان والاغتصاب والعنف والتشرّد وانعدام الجنسية، بالإضافة إلى تقويض حيوات أعداد هائلة من البشر وتدميرها في بلدان الجنوب. من ضفة أخرى، تستكشف كارول كوهن وروث جاكوبسون الأشكال المختلفة من عمل النساء الجماعي في الحرب ضد العسكرة، ومحاولاتهن الانخراط في العمل السياسي المباشر رغم العقبات الذكورية التي تسعى إلى إقصاء المرأة جانباً، وربط نشاطها بمناهضة الحرب والهوية الأمومية. لكن أمثلة كثيرة توردها الباحثتان تنسف هذه الركائز بوجود منظمات نسوية تدعم الإيديولوجيات العسكرية وبعض الحروب، وتعددان بعض الآثار السلبية التي تترتب على ربط الرجل بالحرب والمرأة بالسلم. وتالياً فإن نزع الصفة السياسية عن سياسة المرأة لا يقتصر على كونه مهيناً، إنما تترتب عليه آثار سلبية وخيمة تضع المرأة في مجال خاص وضيّق هو «المنزل، بجانب الموقد». من جهتها، تؤكد جينيفر ماذرز في «المرأة والقوات العسكرية الحكومية» أن وجود النساء في الجيوش الحكومية يزعزع الروايات التقليدية عن الحرب. وتعيد هذه النظرة المستقرة إلى «جندرة المؤسسات العسكرية ذاتها»، ذلك أنّ تجارب النساء اللواتي يخدمن جنديات في الجيوش الحكومية، تنطوي على هويات متضاربة بوصفهن نساء وجنديات، ما أدى إلى التمييز وسوء المعاملة من قبل الذكور، بالاتكاء على التحليل الجندري لأسئلة من نوع: كيف تُدفع المرأة للانضمام إلى الجماعات المسلحة، أو تختار الانضمام إليها، ولماذا؟ كما تلفت إلى فئة من النساء يعتبر وجودها مكملاً لتشغيل معظم الجيوش الحكومية، هي «فئة العاملات في الجنس». إذ بقي مصطلح «تابعة للمعسكر» يُستخدم للتعبير عن الاحتقار، وباعتباره مرادفاً لكلمة «عاهرة». وقد أدت النسويات دوراً أساسياً في كشف أن العلاقة بين الجيوش الحكومية والبغاء ليست عرَضية أبداً. لذلك نجد أن الحالات التي سُمح فيها للمرأة بالقيام ببعض الأدوار القتالية «لم تفعل سوى القليل لتغيير فكرة القتال على أنه الجوهر الذكوري المحدّد للجيش، مع ما يستتبع ذلك من امتيازات ورفع لقيمة الذكورة». في المقابل، تتناول ديان مازورانا أحوال «النساء والفتيات والجماعات المعارضة المسلحة غير الحكومية»، مشيرة إلى انتساب عشرات الآلاف من النساء والفتيات إلى المجموعات المعارضة المسلحة، ومشاركتهن في الصراعات المسلحة في 59 دولة، لأسباب مختلفة، منها الحماية، أو الانتقام، أو الإيديولوجيا السياسية، والعنف والظلم، وحتى الهروب من الزواج القسري. لا تكتفي «المجموعات المتمرّدة» بمشاركة النساء في المعارك بل استخدامهن كانتحاريات بقصد تحسين فرص نجاح المهمة. لكن هذا الأمر لا يعني المساواة بين الذكورة والأنوثة، فلطالما تم نبذ هذه النماذج من محيطهن، بالإضافة إلى تعرضهن للاغتصاب. في بابٍ آخر، تتناول ملاذي دي أولبز، وجولي ميرتوس، وتازرينا سجاد، وقائع من مشاركة المرأة في عمليات السلام بانتهاء الحرب، وصعودها إلى مناصب سياسية عليا، كما حدث في سريلانكا بانتخاب أول رئيسة دولة في العالم (1960). إلا أن بعض الاستثناءات لا تعني حضوراً فاعلاً للمرأة في هذا المجال، على عكس حضورها في عمليات نزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج في بناء السلام، وصولاً إلى عملها الفعّال في مرحلة ما بعد الحرب.