مرّت أيّامي في السجن الانفرادي تعيسة وحزينة، تتخلّلها جلسات التعذيب والاستنطاق. استنطاق لازدراء كانوا يعرفونه منذ البداية. وكنت في كل مرّة أشتمهم وأشتم جميع مقدّساتهم، ولم يكن في وسعي سوى أن أفعل هذا. لقد ربّوا كرهاً عظيماً بداخلي تجاه المعبد، لم أعد أرى فيه سوى أداة كبيرة للقهر والظلم وللإبقاء على المنظومة الاجتماعيّة الفاشلة، لم أكن أرى فيه سوى دوّامة من الخرافات تبتلع الضعفاء.
لقد كرهت هذا الدين، لا بأس بذلك، كرهته، أين المشكلة؟ كرهته شعورياً ولم أعد أصدّقه عقلياً، هل يريدونني أن ألتزم بشيء لا أقتنع به أصلاً؟ أن أفعل الشيء ونقيضه في نفس الوقت...
المعبد يريدنا كائنات ناطقة بنصوصه، مفكّرة بنصوصه، مسقّفة في حدوده، محدودة القرار، قاصرة، ناقصة عقل، تافهة. لم يكن يريد بشراً، كان يريد أجساداً تتبع، جموع تُستعبد وتنفّذ فقط، كان يريد بهائم ناطقة، لا غير.
أمّا أنا، فقد قطعت الحبل حول رقبتي فوضعت في هذا السجن، وكنت أفكّر دائماً في طريقة ما للفرار، لا لشيء سوى لإنقاذ الرضيع صاحب الرأس الكبير، ولا آبه إن مت بعدها أو التهمتني التماسيح، كنت أفكر دائماً في حلّ ما لأجله، لأجل روحه النقيّة، لكي أمنحه الحياة التي يستحقها في وجه هذه الفوضى المسماة دينا، وفي لحظات العذاب والسجن تلك تم اقتيادي فجأة دون إخطار سابق الى المحاكمة، المحاكمة الصورية، المحاكمة الرهبانية، المحاكمة الظالمة كآلاف المحاكمات.

دخلت غرفة المحاكمة، غرفة رمادية بلون يقترب للسواد يعلوها رأس تمساح كبير بفم مفتوح وأنياب طويلة وأقراط على جانبيه على شكل ميزان مختل تدنو جهة منه الى الأرض، وتماثيل رخامية لصيقة بجدرانه، تجسّد رابطة الإنسان بالآلهة، على شكل أجسادٍ بشرية برؤوس تماسيح كبيرة ومخيفة، لماذا؟ لمحاكمة فكر، محاكمة عقل، محاكمة بتهمة محاولة انقاذ رضيع، محاولة انقاذ بذرة أمل، بذرة حياة، بذرة تغيير، لقد كانت المحكمة أشبه بغرفة لتكديس جثث الموتى ينبعث منها صمغ الموت الأكيد، لقد رأيت في جدرانها آلام الشعب وأنياب الجهل، تذكّرت كل تلك المحاكمات التي اقتادت الأبرياء الى بطون الوحوش الخضراء، كانت قاعة طويلة فارغة يتقدّمها مجلس من كبار القضاة ورهبان، يتوسطهم القاضي الأكبر الذي لم أستطع أن أرى وجهه جيداً بسبب الخمار الخشن الذي كان يضعه على رأسه وكان يلقي بظلامه على وجهه، ورهبان يتزينون بألبسة وأوشحة، كان اللون البنفسجي يزين كل لباس، ووشاح أسود وعقد ذهبي خشن يحمل رأس تمساح كذلك. إنّها محاكمة رهبانية، دينية، لقد مسست بكرامة المعبد وكان علي أن أقبل المساس بكرامة العقل والإنسان. وفضلاً عن ذلك، فتهمتي الأكبر المساس بحق التماسيح في أكل لحم الانسان، وشتمها، أي التماسيح، وشتم جاكوشا القائد في جلسة التحقيق.
بدا كل شيء متجمداً بداخلي، متجمداً بشكل كلي، الّا تلك الصورة التي بقيت حبيسة عقلي وعواطفي، وأنا أسحب الطفل الرضيع من بطن أمّه المشقوق. لقد كانت تلك الصورة الجزء الوحيد الذي يمدّني بالحرارة والشجاعة، وقفت أمام القاضي، وقفة صلبة وقد تجرّعت ما يكفيني من الاضطهاد لأتحوّل لحجر، نظر اليّ بنصف وجه، سألني: «من هو الرب الذي تؤمنين به؟» أجبته جواباً ملتوياً قد يورّطه هو الآخر في مشكلة أكبر: «ربّي هو جاكوشا».
احمرّ وجه القاضي، ولم يجد مخرجاً للسانه في من جوابي، اذ لم تحدّد طبيعة القائد في ديانة التماسيح، لم يقل لنا أحد من هو جاكوشا؟ ما هي طبيعته؟ فهو لا يَموت، لا يُرى، لا نسمع له صوتاً تقريباً، لم يَقُل لنا أحدٌ إن كان بشراً أم آلهة إله، لا يوجد في الكتاب المقدّس نصٌ يذكر هذا أو ينفيه.
هل هو اله؟ فهو مقدّس بنفس الطريقة، هل هو بشر؟ ربّما، لا يمكن لأحد أن يجزم بماهية جاكوشا، لا يمكن لأحد أن يثبت أنّه بشري مثلنا ولا يمكن لأحد أن ينكر أنّه آلهة إله، كان شيئاً ما بين الاثنين أو كلاهما معاً، أو لا شيء البتّة. السؤال نفسه قد يكون ازدراء بشكل ما فما ادراك كيف ستعتبر إجابتي؟ وربّما كشكل متوتر من أشكال الازدراء هي الأخرى أو أكثر من ذلك بكثير، ان قال القاضي أنّ جاكوشا إله يكون قد قال شيئاً لا يوجد في الدين، وهو بذلك قد أساء للدين وتقوّل عليه بما لم يقل، وان أنكر عنه الألوهية، يكون بذلك قد أهان جاكوشا وأساء اليه بإنكار صفة لم ينكرها عليه الدين ذاته بنص صريح.
احمّر وجه القاضي أكثر وأكثر وتصبّب عرقاً وقرّر أن يسألني سؤالاً آخر عوض الاجابة: «هل تؤمنين أن لا اله الّا الصنم، رب التماسيح المقدّسة والنهر العظيم؟».
أجبته غير متردّدة: «سيّدي القاضي في هذا النهر الساكن والقرى الضنكى، في هذا التخلّف القاتم والظلم السائد، ليس هناك من اله سوى الصنم. لو تغيّرت الشروط ستتغير هذه النتيجة التي لم تكن يوماً سبباً، ستتغير المفاهيم وسيغدو الصنم حجراً، فيغدو الانسان حياةً، سيّدي القاضي ما من إله عادل يرضى أن يُرمى الأطفال الرضّع الى التماسيح، ما من إله يرضى بهذا سوى إله من حجر، إله مزروع بداخلنا بالقوّة، يختفي أثناء صلواتنا ليظهر عند معاصينا ليذكّرنا بوجوده، عالمنا لا يحتاج لإله بعين مثقوبة تمتص هواء العالم الى جوف صورته عوض أن يتجلى من خلالها عدلاً في البسيطة هذه. إنّ الأفكار سيّدي القاضي لا تحبس في قوالب دينية توارثيّة، الأفكار سيّدي كالطبيعة تأبى الفراغ، لا شيء في الفكر البشري قابل للتأطير بهذا الشكل المفجع من الكهنوت الديني والتزمّت والسيطرة عن طريق التخويف».
ثمّ سألني القاضي، وقد بدا عليه التوّتر: «ألجا، كراهبة تعلمين عقوبة ازدراء المعبد، وأنتِ تعلمين أيضاً أنّك كراهبة عقوبتك ستكون أقصى من العقوبة العادية، أظنّك تعلمين هذا، فأنت ملك للمعبد من يوم ولادتك في اليوم المحرّم وله الحق في أن يفعل فيك ما يشاء».
أجبته بقلب صاف وإرادة حازمة في التحرّر: «كلّكم تتحدّثون عن ازدراء الدين، ماذا عن ازدراء الانسان؟ ازدراء كرامته؟ ازدراء عقله بخرافاتكم التي تطلونها بصباغ الحكمة الكاذبة والخدع العمياء التي لا تعرف أهدافاً محدّدة لها، تنطلق كرؤوس الشياطين بعفوية وعشوائيّة، تختار من أبناء الشعب ضحايا لها بالقرعة، برمي حجر النرد، بالاحتمال، ماذا قد يعني الدين أمام الإنسان؟ فبإمكان هذا الأخير أن يتألّم وأن يشعر بالمعاناة وهي تنخر عظامه، بمَ قد يشعر الدين؟ لا شيء، الدين ما هو إلّا مجموعة من الأفكار التي توارثناها وحرستها القوّة البشريّة كأسوار هذه القلعة الضخمة وبؤسها القاتم، ومحاكمتكم هذه خير دليل على الغلق الذي جعلتموه اطاراً حول الأفكار الدينية، ممّا جعلها تنفذ في كل جيل ومنه الى الجيل الذي يليه بسلاسة تامة غير آبهة بكرامة الإنسان ولا بفكره المجدّد... السيّد القاضي ليس هناك ازدراء أكبر من ازدراء الذكاء البشري وطمس معالم الحريّة الفكريّة فيه. ومن هنا من هذه المحاكمة الظالمة، أعلن أني قد كفرت بالجهل الذي قد تفشّى بين أبناء شعبي وأعلن رفضي لرمي البشر للتماسيح، لسنا طعاماً لتلك الوحوش المقدّسة، نحن بشر بأفكارنا وحريّتنا وكرامتنا، نحن من يجب أن يقدّس، الحياة هي ما يجب أن تقدّس».
قال القاضي كأنّه لم يفهم سوى ذلك الاعتراف الضمني في قولي: «اذن أنت تكفرين بالدين وتعلنين هذا صراحة وتضعين الانسان في درجة أعلى من التمساح؟ من هذا المقدس العظيم والذي لولاه لما كنّا اليوم على قيد الحياة، وبذلك أنت تدعين الجماهير الشعبية الى التمرّد على الدين والنظام، أليس كذلك؟».
أجبته وكلّي عزم وقوّة: «نعم الانسان أعلى درجة من التمساح، أعلى درجة من المقدّس، أعلى درجة من هذه القلعة، أعلى درجة حتّى من جاكوشا المسيطر، لا بدّ لهذه اللوحة المخيفة التي رُسِمت في أذهاننا عن انسانيتنا أن تنجلي، النظام ليس سوى مجموعة مصالح وأمّا الدين والقانون فليسا سوى من الأدوات التي تمتلكها السلطة للحفاظ على مصالحها، هذا الدين الذي استطاع أن يقنعنا بأن نرمي أنفسنا طعاماً للتماسيح، يستطيع أن يقنعنا بما هو أسوأ، كما بإمكانه أن يقنعنا بضعفنا وباحتقارنا لأنفسنا لصالح مجموعة من الانتهازيين الذين يختبئون وراءه بشتى الطرق، سيدي القاضي ان كانت ارادتي هذه في تحرير الانسان وعقله من قيود الجماعات الشريرة والأفكار البالية جريمة، فأنا فخورة بارتكابها، سأقف أمام أي حكم بقوّة وجبروت كالتمرّد العاصف في وجه الأحصنة المقنّعة بأقمشة الذل والمهانة والمسرّجة ببؤس شعبي الهجين من خرافة انتكاسيّة وأفق فكري مسدود صنعه بؤس المنظومة».
[...]
حاول الرهبان اسكاتي حينها، ثم قاطعني القاضي متسائلاً: «من علّمك هذا؟»
أجبته: «الاضطهاد، الخوف، الظلم، لقد جعلتم معبدكم يقف في وجه غريزتي في حب البقاء، وإرادتي في المقاومة، وقدرتي على الصبر والتحمّل، جعلتم الدين ضعيفاً أمام طفلٍ رضيع لم يتحمّل بقاءه على قيد الحياة، فحاول المعبد رميه الى التماسيح، جعلتموني ألاحظ بعين ناقدة عوض ذلك الايمان السلبي والتافه الذي يجعلني أخفض رأسي في كل مرّة لكل أنواع الظلم والخرافات، وأن أصدّق بفم مفتوح كل تلك الأكاذيب المقدّسة والتي اكتسبت بروزها فينا من خلال الدين وجبروت المعبد وتماسيحه، في كل مرّة أسمع فيها كلمة مقدّس أو تقديس تأتيني، تتزاحم مرادفات الكلمة في عجالة الى عقلي، تلتهم هدوئي، انّها الركود، العفونة، الطمس، الإلغاء، التحرّش، الكراهية، التذمّر، الخوف، الموت، القتل، الدمار، التجمّد... كل هذه المفردات وأخرى تتجمع في عقلي لكي تطلب منّي أن أقوم بشيئين مختلفين، أن أثور أو أن أركع، أو أن أبقى حبيسة الوسط، منافقة استجمع مصالحي الخاصة وأفرّ الى ذاتي وأنانيتي بعدها، أتقوقع على طريقة القرفصاء في كهوف الزيف والتحنيطـ، ضاحكة على كل أولئك الأغبياء الذين استفدت من غبائهم مثلما يفعل كثيرون هنا باسم الدين، وبينما أزدري المعبد بداخلي، وأشكره على مصالحي الخاصة والضيّقة... أنتم رأيتم الآلهة في التماسيح في الحجارة في الأصنام الحجريّة والخياليّة بينما أنا رأيتها في بطون الجوعى وقهر المظلومين، رأيتم الآلهة في السماء بينما أنا رأيتها في الأرض في توسّل الفقراء في عقول العلماء الذين قطعتم ألسنتهم، أنا من هذه الأرض من هذا النهر الذي لي ولست له، أمّا هذا المعبد فقد اختطفني من طفولتي من براءتي من ذاتي وعلّمني كره الآخر وازدراءه، يوم أخذني الراهب من حضن أمّي، من حقل القمح، من السماء التي كانت بعيدة جدا فوق رأسي، وألبسني الأساور في يدي تعلّمت حينها أنّ المعبد لم يكن سوى أساور وتماسيح، وحينها استبدلت السماء البعيدة بسقف المعبد كنت حينها راهبة وكلّما صرت أكثر تديّنا كان السقف يدنو أكثر وأكثر».
«ما كل هذا الحقد على الدين، وكأنّ الشيطان ذاته يتحدّث هنا؟»، قال القاضي بكل غضب. «لم أر في حياتي من هو أشدّ حقداً على المقدّسات مثلك منك، كأنّك لم تكوني أبداً راهبة، تحملين في قلبك أحقاداً دفينة منذ طفولتك، ولا تشفقين أبداً على آلهتنا، وعلى تماسيحنا المقدّسة وتستخسرين فيها لحماً بشرياً تافهاً، ألا لعنة أولوهو عليك، سأنطق الحكم بعد مشاورة الرهبان».
لقد جرى الأمر بسرعة، شققت بطن الأمّ الميّتة، أنقذت الطفل من أنياب التماسيح، عدت الى المعبد ورفضت الزواج مجدّداً من بيشان. تمّ تقديمي الى التحقيق، وها أنا الآن أنتظر الحكم الذي في أحسن الأحوال سيكون تقطيع لحمي وتقديمه للتماسيح.
أنتظرت ببرود تام، لقد قلت ما في جعبتي من آراء وأفكار كإنسانة وكراهبة سابقة. أن تتمرد الراهبة على المعبد، سيكون لذلك بالتأكيد أثره على الشعب، من يكترث بعد الآن لموتة بين أنياب التماسيح؟ أليس ذلك بأرحم من الموت على وقع الجهل والزيف؟ المهم والأهم أنّي قلت آرائي بحريّة وبصدق ولتذهب روحي بعد ذلك كما تشاء هي الى الجنة أو الجحيم...
دخل القاضي ومعه الرهبان وسألني للمرّة الأخيرة: «هل هناك ما تريدين اضافته الى أقوالك؟»
لقد كان يحمل الحكم في يده، ولم أكن أتوقع أبداً الرحمة من معبد يرمي الرضّع للتماسيح، التماسيح الحيوانية أو البشريّة، وخاصة بعدما صدرت منّي كل تلك الأفكار، فبقائي تهديد خطير للمنظومة وللنظام. أجبته: «نعم لدي ما أضيفه. اللعنة عليك أنت أيضاً وعلى القضاء الذي يحمي الأقوياء ويتقوّى على الضعفاء والذي يختبئ وراء الدين لحماية مصالح شرذمة صغيرة من المنتفعين، هذا القضاء الظالم والمتجبر لا يستحق سوى اللعنة، وكذلك أنت وأنت كذلك.. ما هذه الآلهة الضعيفة التي تحتاج قاضياً ليدافع عنها ويجعلها طرفاً كالطرف البشري في محاكمة؟»
صرخ القاضي: «خسئتِ يا كافرة». ثم فتح الورقة بسرعة، وراح يقرأ الحكم: «باسم الصنم الأكبر، باسم أولوهو العظيم، باسم الذات الالهية العظيمة التي خلقت هذا النهر الكبير، باسم التماسيح المقدّسة والعادلة، باسم روح ميريسا العظيمة، وباسم جاكوشا الذي فوّضني ناطقاً بالحكم، حكمت عليكِ المحكمة - أيتها الراهبة ألجا ابنة كيشاريتي- بالحرق حيّة حتى الموت بعد الصلب، وأن تواصل النار حرقها لجثّتكِ بعد الموت الى أن تتحوّل الى رماد وضيع ينثر بين قرى ومدن النهر على تشعباته، لكي تكوني عبرة لكل العُصاة ومن ينوون، ولو سراً، عصيان الآلهة الرحيمة والعادلة، ليكون رمادك دواء لأمراضهم النفسيّة وللازدراء، وحتى لا يدنس شرف التمساح بعد الآن، على أن ينفّذ الحكم بعد غد في نفس يوم مراسيم الطهارة من الرضيع المحرَّمة عليه الحياة، في نفس المكان في قرية ميهتابا.. انتهى الحكم». ثم تأمّلني بحقد وقال لي: «سنرى ان كان لسانك القذر هذا سيكون بمقدوره أن يتفوّه بتلك الكلمات البذيئة عن الدين بعد الحرق، وسنرى ألمك وعذابك وأنت تحترقين، وأنت تتأمّلين عذاب الرضيع والتماسيح المقدّسة تقوم بالتهامه ومضغه بين أنيابها. خذوها أيها الحرس».
* تصدر الرواية قريباً عن «دار أطلس» (مصر)